إن الحمد لله تعالى نحمدهونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَن يهد الله فلا مضل له، ومَن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا ِِإله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.....
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إلا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ }[ سورة آل عمران: 102]
فإن أصدق الحديث كتاب الله – تعالى- وخير الهدي هدي محمد r وشر الأمور محدثاتها، وكل
محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أولاًً: الإفطار في نهار رمضان من غير عذر:
وهذا أمر خطير ابتُلِيَ به بعض المسلمين، وجزاؤه عظيم كما أخبر الرسول الأمين صلى الله عليه وسلم
ففي الحديث الذي أخرجه ابن حبان وابن خزيمة عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه أن الحبيب النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بينما أنا نائم أتاني رجلان فأخذا بِضَبْعَيَّ(1)، فأتيا بي جبلاً وَعْراً(2)، فقالا: اصعد، فقلت: لا أطيقه، فقالا: إنا سنُسهِّله لك(3)، فصعدتُ حتى إذا كنت في سَوَاءِ الجبل(4)، إذا بأصوات شديدة، قلت ما هذه الأصوات؟ قالا: هذا عواء(5) أهل النار، ثم انطُلِق بي، فإذا أنا بقوم معلقين بعراقيبهم(6)، مشققة أشداقهم(7)، تسيل أشداقهم دماً, قلت: مَن هؤلاء؟, قالا: الذين يفطرون قبل تحلَّة صومهم(8)"(صحيح الترغيب والترهيب:995)
1ـ ضبعي: وسط العضد، وقيل: هو ما تحت الإبط
2ـ وعراً: صعب المسلك، أي: الوصول إليه يكون بشدة وألم.
3ـ سنُسهِّله لك: أي نجعله لك سهلاً، ونساعدك على صعوده ورقيه.
4ـ سَوَاء الجبل:وسطه5ـ عواء: صراخ
6ـ عراقيبهم: جمع عرقوب، وهو الوتر الذي خلف الكعبين.7ـ أشداقهم: جوانب الفم
8ـ قبل تحلَّة صومهم: أي قبل أن يحل له ما حُرِّم عليه بسببه, والمراد: أنهم يفطرون قبل تمام صومهم (أي: قبل وقت الإفطار)، فإذا كان هذا وعيد مَن يفطرون قبل غروب الشمس ولو بدقائق معدودات، فكيف بمَن يفطر اليوم كله؟! إنه على خطر كبير.
ففي مسند الإمام أحمد والنسائي عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"ثلاث أحلف عليهم: لا يجعل الله تعالى مَن له سهمٌ في الإسلام كمن لا سهم له، وأَسْهم الإسلام ثلاثة: الصلاة، والصوم، والزكاة"(صحيح الجامع: 3021)
قال الحافظ الذهبي – رحمه الله ـ كما في كتابه "الكبائر":
وعند المؤمنين مقرر أن مَن ترك صوم رمضان بلا عذر أنه شر من الزاني، والمكاس، ومدمن الخمر, بل يشكون في إسلامه، ويظنون به الزندقة والإخلال ( أي في إيمانه خلل)
- المكاس: العشار، أي الذي يأخذ عُشر الأموال, والمقصود: هو جابي الضرائب التي تفرض على الناس ظلماً, ومن معاني المكس: النقص والظلم.
ولذلك كان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول فيما رواه الخمسة:
"مَن أفطر يوماً في رمضان من غير رخصة، لم يجزه صيام الدهر كله".
والمقصود هو التغليظ الشديد على مَن أفطر يوماً في رمضان متعمداً بغير عذر، وليس المقصود أنه لا يقضي ما أفطره؛ لأن قضاءه واجب.
بل وصل الأمر بالبعض أنه يجاهر بهذه المعصية (الفطر) في نهار رمضان.
والنبي العدنان يقول كما عند البخاري ومسلم: "كل أمتي معافى إلا المجاهرين".
فإذا كان هذا الخرق الواضح لشعيرة معظّمة جداً في نفوس المسلمين قابلها الناس بالسكوت والرضا لعمَّهم الله بالعذاب سواء المفطرين أو الساكتين على هذا المنكر العظيم، كما قال رب لعالمين:
وها هي إحدى زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم تسأله:
"يا رسول الله أنهلكُ وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث". (رواه البخاري ومسلم)
وفي موطأ الإمام مالك، يقول عمر بن عبد العزيزـ رحمه الله ـ:
"كان يقال: إن الله ـ تبارك وتعالى ـ لا يعذب العامة بذنب الخاصة، ولكن إذا عُمِلَ المنكر جهاراً استحقوا العقوبة كلهم".
واعلم أخي الحبيب... أن عقوبة تارك الصيام عمداً مع القدرة عليه شديدة.
عقوبة تارك الصيام في رمضان بغير عذر
·أولاً: العقوبة في الدنيا:
1- حرمان البركة في الرزق والصحة والعمر:
فقد أخرج الإمام أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم:"إن العبد ليُحْرَم الرزق بالذنب يصيبه"، ولعل قائل يقول: أنا أفطر ومع هذا يفتح الله عليّ الرزق، فنقول: اعلم أن هذا قد يكون استدراجاً من الله U،
ففي مسند الإمام أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب، فإنما هو استدراج. ثم تلا النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ } [الأنعام: 44]"
وقد يعاقب الله هذا الإنسان في صحته التي يعصيه بها، أو يبتليه بنوع من المرض يجعله يصوم اضطرارياً لا اختياراً.
أما تعلم يا مَن تفطر في رمضان أن هناك من المرضي يمنعهم المرض من الصيام، وتختلط دموعهم بالدواء الذي يشربونه حزناً على عدم الصيام.
2- ضيق الصدر:
فمَن زرع الشوك لا يجني العنب, ومَن يزرع الذنوب لا يجني السعادة، فالسعادة الحقيقية حرام
على كل مَن أعرض عن الله، قال تعالى:{... فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى{123} وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:123ـ 124]
3- ظلمة في القلب وسواد في الوجه:
يقول ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ:"إن للحسنة ضياء في الوجه، ونوراً في القلب، وسعة في الرزق، وقوة في البدن، ومحبة في قلوب الخلق، وإن للسيئة سواداً في الوجه، وظلمة في القبر والقلب، ووهناً في البدن، ونقصاً في الرزق، وبغضة في قلوب الخلق".
4- أن يحرم من بركات رمضان:
يا من تريد أن تستريح من تعب الصومأما تخاف أن يحرمك الله من رمضان بالموت؟!
فقد حكي: أنه كان لهارون الرشيد غلام سفيه كان يستثقل الصيام, فلما أقبل شهر رمضان تضايق هذا الغلام، وأخذ يقول:
دعاني شهر الصومولا كان من شهر
ولا صمت شهراً بعده آخر الدهر
فلو كـان يُعْدِيني الأنـام بقوة على
الشهر لاستعديتُ قومي على الشهر
يعنى: لو كان الناس يستطيعون مساعدتي على حرب هذا الشهر لطلبت منهم ذلك.
فأصابه الله بمرض الصّرع, فكان يصرع في اليوم عدة مرات، ومازال كذلك حتى مات قبل أن يصوم رمضان الأخر.
5- يعيش كما تعيش البهائم:
إن الذي وصلت به شهوة البطن والفرج إلى حد أنه أفطر في رمضان – بغير عذرشرعى- لاشك أن أقرب الأخلاق إلى أخلاقه هي أخلاق البهائم،لأن شهوتها في الأكل والشرب وقضاء الوطر
قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: وأما الذنوب البهيمية فمثل: الشّره، والحرص على قضاء شهوة البطن والفرج، ودليل هذا في القرآن الكريم قوله تعالى: {... وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ } [محمد:12]،وقوله تعالى:{ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً }[الفرقان: 44]
قال بعض السلف:"إن هذه القلوب جوّالة، فمنها ما يجول حول العرش، ومنها ما يجول حول الحُشّ" أي: حول مكان القاذورات والنجاسات.
وانظر لهؤلاء الذين دفعتهم شهوة الأكل إلى التحايل على الحرام فمسخهم الله قردة:
إنها قصة بنى إسرائيل الذين يسكنون على شاطئ البحر، وقد نهوا عن الصيد يوم السبت ليتفرغوا للعبادة في ذلك اليوم، وكانت الأسماك تأتيهم فقط يوم السبت، فنصبوا الشِّباك يوم السبت، وأخذوا السمك يوم الأحد، وهذا نوع من أنواع التحايل على الحرام، وامتنعت مجموعة من الصالحين عن ذلك، ونصحت المخالفين لأمر الله، فلما لم يستجب هؤلاء المخالفين للنصح، مسخهم الله إلى قردة، فذهب الصالحون إليهم في ذات يوم فوجدوهم ممسوخين إلى قردة – والعياذ بالله- فكان الرجل الممسوخ يأتي إلى قريبه الصالح ويشم ثيابه ويبكي، ولا يستطيع أن يتكلم لأنه أصبح قرداً.. فيعاتبه قريبه الصالح، ويقول له: ألم أنهك؟! فيهز القرد – أي الرجل الممسوخ- رأسه، يعنى: بلى نهيتني، ولكن لم أستجب.
(انظر تفسير القرطبي في سورة الأعراف)
قال الحسن البصري ـ رحمه الله ـ:
"أكلوا والله أوخم – أسوأ- أكله، أكلها أهلُها، أثقلها خزياً في الدنيا، وأطولها عذاباً في الآخرة".
·نداء إلى الذين يفطرون في رمضان ويتركون الصيام
يا مَن تتركون الصيام في رمضان.. أتدرون مَن تعصون؟!
إنكم تعصون ربكم الذي خلقكم وأعطاكم من كل ما سألتموه، فمالكم لا ترجون لله وقارا؟
يا مَن تتركون الصيام في رمضان.. هل تعلمون أن الله وملائكته يُصلُّون على المتسحرين، وهذا السحور عون على الصيام، فما ظنكم بالصيام؟
فقد جاء في الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"إن الله وملائكته يُصلُّون على المُتسحِّرين".(الصحيحة:1654)
فيا دني الهمة.. تبيع صلاة الله والملائكة بشبع وتخمة، ولا تصم عن لقمة.
يا مَن تتركون الصيام في رمضان من أجل الطعام.. اعلموا أن هذا الطعام إذا جاوز اللسان فهو نتان، فالإنسان يشعر بلذته وطعمه لثوان معدودات ثم يصبح قاذورات، ويخرج على شكل فضلات- فأين لذته بعد الإنهضام- ذهبت وبقيت العواقب الوخيمة.
تفنى اللذاذة ممَّن نال صفوتها
من الحرام، ويبقى الإثم والعار
تبقى عواقب سوء منمغبتها
لا خير في لذة من بعدها النار
يا مَن تتركون الصيام في رمضان من أجل الماء.. هل تعلمون أن من أعطش نفسه لله في الدنيا، سقاه الله يوم العطش الأكبر، حين تدنو الشمس من رءوس الخلائق.
ففي الحديث الذي أخرجه البزار بسند حسن وفيه:
"إن الله – تبارك وتعالى – قضى على نفسه أنه من أعطش نفسه له في يوم صائف سقاه الله يوم العطش"
وألقى على مسامع حضاراتكم ما ذكره أحدُ العمّال في مصنع الحديد والصلب بحلوان:
حيث ذكر أن والده سقط في خزان الصخور المعدنية المنصهرة شديدة الحرارة، فتبخَّر الهيكل العظمى لوالده في ثوان، ولم يعد له أثر، فهذه نار الدنيا ونهايتها موت، فما بالك بنار الآخرة؟! وهي أشد من نار الدنيا بسبعين مرة، ولا موت فيها.. اللهم سلِّم سلِّم
وأسأل الله Uلنا ولكم العفو والعافية في الدنيا والآخرة، وأن يجرنا من عذاب جهنم
{إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً }[الفرقان: 65]
واعلم أن البعد عن جهنم ـ التي لا تُبْقي ولا تذر ـ يكون بقدر صيامك في الدنيا.
فقد أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"لا يصوم عبدٌ يوماً في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفاً"
وعلينا أن نتذكر حال أهل النار، الذين رووا في الدنيا وتمتعوا بشتى متع الحياة، ولكنهم كانوا بعيدين عن الرحمن، كانت أمنيتهم كما ذكر القرآن عندما ينادون على أهل الإيمان:
يا مَن تفطر في رمضان من أجل شربة ماء.. أما تشتاق لشربة هنيئة من يد النبي محمد صلى الله عليه وسلم من حوضه يوم القيامة، وهو القائل صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري:
"حوضي مسيرة شهر، وزواياه سواء، ماؤه أبيض من اللبن، وريحه أطيب من المسك، وكيزانه كنجوم السَّماء، مَن يشرب منه فلا يظمأ أبداً"
ثانياً: الإكثار من تناول الطعام والشراب والملذَّات قبل دخول رمضان:
يظن البعض أن الشرع نهى عن الصوم قبل رمضان؛ حتى يتسنى له أن يأخذ حظَّه من الطعام والشراب، قبل أن يمنع من ذلك في رمضان، ويستدلوا بالحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنهعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين"
والناظر في هذا الحديث يجد فيه الحث على الإكثار من الصيام في شعبان؛ حتى يتهيأ ويتعوَّد الإنسان على الصيام في رمضان، لكن عليه أن يقطع هذا الصيام قبل دخول رمضان؛ حتى يدخل في صيام رمضان بهمَّة ونشاط، وليس المقصود من الحديث هو التزود، والإكثار من الطعام والشراب؛ لأنه سيمنع من ذلك في رمضان.
ومن الناس من لا يكثر قبل رمضان من الطعام والشراب فقط، بل يكثر من شرب الحرام قبل أن يحرم منه في رمضان، يقول بعضهم:
إذ العشرون من شعبان ولَّت
فواصل شرب ليلك بالنهار
ولا تشرب بأقداح صغار فإن
الوقت ضاق على الصغار
وهذا المسكين عندما يدخل عليه رمضان لا يستشعر بلذة الصيام، ولا حلاوة القرآن، ولا متعة القيام؛ لأنه لم يطهِّر قلبه من الآثام، وتجده دوماً في شوق إلى الحرام؛فيستثقل ساعات الصيام وتمر عليه وكأنها أيام، فإذا أذَّن الأذان للمغرب، قام فأشعل السيجار، أو أخذ حظه من ألوان الحرام؛ فأفطر عليه بعدما صام عن الحلال.
ثالثاًً: الاستعداد لرمضان عن طريق الإكثار من شراء الأطعمة، وتنويع الأشربة:
فتبدأ النساء مع بداية الشهر بإعداد قائمة طويلة لما تحتاجه من المطاعم والمشارب، وهذه القائمة ربما تتضمن أكثر من ثلاثين صنفاً من الأطعمة والأشربة المختلفة.
ولقد أثبتت الإحصائيات بالأسواق المحلية أن ما ينفق على الطعام والشراب في رمضان، يقترب من ثلاثة أضعاف ما ينفق على ذلك في بقية الشهور.
ولذلك تجد أن البعض يستدين لشراء الطعام والمشروبات على اختلاف ألوانها وأشكالها، من الياميش والمكسرات، والحلويات، وأنواع الفاكهة، والطير واللحوم والأسماك، والخضروات والسلاطات، وأنواع الألبان والعصائر، والتمر والزبيب...انتهاءً بكعك العيد.
وهذا كله ينهك الزوج من الناحية المادية، كما ينهك الزوجة من الناحية الجسدية؛ حيث تبدأ هي الأخرى في الاعتكاف المطبخي طوال الشهر، ولا تخرج من هذا الاعتكاف إلا مع العيد..
فهل هذا هو الاستعداد لشهر رمضان، والمغفرة والرضوان، والعتق من النيران؟!.
وعند الإفطار توضع أصناف الطعام بأشكالها وألوانها؛ فيأكلون ويشربون بشراهة، ثم يقومون كسالى قد ثقلت عليهم العبادة، يقومون عن الطعام وقد تركوا منه الكثير فيلقى في صناديق القمامة،
وهذا هو التبذير الذي نهى عنه الشرع الحكيم، فقال رب العالمين:
فقد أخرج الإمام مسلم عن جابر رضي الله عنهأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"إن الشيطان يحضر أحدكم عند كل شيء من شأنه حتى يحضره عند طعامه، فإذا سقطت اللقمة فليمط ما كان بها من أذى ثم يأكلها ولا يدعها للشيطان، فإذا فرغ فليلعق أصابعه، فإنه لا يدري في أي طعامه البركة".
قال مجاهد – رحمه الله –:
"لو أنفق إنسان ماله كله في الحق لم يكن مبذراً، ولو أنفق مُداً في غير حق كان مبذراً، ولو أسرف الرجل في أي شيء لشاركه الشيطان فيه سواء مسكن أو مطعم أو مشرب أومركب، حتى الفراش".
كما جاء في الحديث الذي أخرجه الإمام مسلم عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
وهكذا حال كثير من الناس، أخذوا يتزوَّدون من ألوان الطعام والشراب، وغفلوا عن الزاد الحقيقي الذي أمرهم به الله رب العالمين.قال تعالى:{... وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ }
[البقرة: 197]
قال ابن كثير – رحمه الله – في تفسير هذه الآية:
لما أمرهم الله بالزاد للسفر في الدنيا، أرشدهم إلى زاد الآخرة وهو استصحاب التقوى، كما قال تعالى:{يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ...} [الأعراف: 26]
فلما ذكر اللباس الحسي نبّه مرشداً إلى اللباس المعنوي، وهو الخشوع والطاعة والتقوى، وذكّر أن خير من هذا وأنفع وكان عطاء الخراساني يقول، في قوله تعالى:{فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى}[البقرة: 197]
يعني: خير زاد للآخرة هي التقوى.
وقال الزمخشري- رحمه الله – في "الكشاف":
أي: اجعلوا زادكم إلي الآخرة اتقاء القبائح، فإن خير الزاد اتقائها.
وصدق القائل حيث قال:
تزوّد من التقوى فإنك لا تدرى
إذا جنَّ ليلٌ هـل تعيش إلى فجر
فكم من صحيحٍ مات من غير علةٍ
وكم من سقيم عاش حيناً من الدهر
وكم من فتى أمسى وأصبح ضاحكاً
وقـد نُسِجَت أكفانه وهو لا يدري
وكم من عروسٍ زيَّنوهالزوجها
وقـد نُسِجَت أكفانها ليلة العرس
رابعاً: تـرك الـسـحــور:
فمَن ترك السحور متعمداً؛ ترك وصية الرسول صلى الله عليه وسلم وفاته من الخير الكثير.
فقد أخرج الإمام أحمد بسند حسن عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنهعن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"السحورُ أكلة بركة، فلا تدعوه ولو أن يجرعَ أحدُكم جرعةً من ماءٍ، فإن الله وملائكته يصلُّون على المُتسحِّرين" (صحيح الجامع: 3683)
وفي رواية أخرى عند البخاري ومسلم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"تسحَّروا، فإن في السحورِ بركةً"
قال الصنعاني – رحمه الله – في "سبل السلام":
والبركة المشار إليها في الحديث: اتباع السنة، ومخالفة أهل الكتاب، لحديث مسلم من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"فضل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحور"
ومن البركة التقوِّي بها - أي أكلة السحر- على العبادة وزيادة النشاط، والتسبب للصدقة على من يسأله وقت السحر، ومن ذلك صلاة الله وملائكته على المتسحرين.
خامساً: الـتـعـجـيــل بالـسـحــور:
وهذا مخالف لهدي النبي صلى الله عليه وسلم، إذ أنّ هدي النبي هو تأخير السحور
فقد أخرج البخاري ومسلم عن أنس عن زيد بن ثابت – رضي الله عنهما – قال:"تسحَّرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم قام إلى الصلاة، قلت (أي أنس): كم بين الأذان والسحور؟
قال: قدر خمسين آية".
وطالما أن الناس يؤخرون السحور فهم على خير كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم.
فقد أخرج البخاري ومسلم عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"لا يزال الناسبخير، ما عجَّلوا الفطر"،وزاد الإمام أحمد: "وأخَّرُوا السحور"
أضف إلي هذا أن السحور مبكراً، والتعجيل به يؤدى في الغالب إلي:-
1- تضييع صلاة الفجر في جماعة.
2- شعور الصائم بالجوع والعطش مبكراً، وهذا يؤدى بالطبع إلى قصور في قراءة القرآن، وفتور في العبادة.
فيفهم من ذلك أن تأخير السحور يقوِّي الجسد على الصيام.
تنبيه:
هناك من يستمر في تناول السحور حتى يتشهَّد المؤذن، وهذا خطأ كبير يقع فيه البعض، فيجب على الإنسان أن يتوقف عن تناول الطعام والشراب عند سماع أذان الفجر؛ لأن الأذان إعلام بدخول الوقت، والصيام شرعاً هو الإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر الصادق إلي غروب الشمس مع نية التعبُّد.
سادساً: تـأخـيــر الإفـطــار:
وهذا أيضاً بخلاف هدي النبي صلى الله عليه وسلمفمن هديه صلى الله عليه وسلمتعجيل الفطر
كما جاء في الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال:
"كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر وهو صائم، فلما غابت الشمس، قال لبعض القوم: يا فلان، قم فاجدح لنا، فقال: يا رسول الله، لو أمسيت، قال: انزل فاجدح لنا... (ثلاثاً)، فنزل فجدح لهم، فشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: إذا رأيتم الليل قد أقبل من هاهنا فقد أفطر الصائم"
ـ الجدح: تحريك الطعام في القدر بعود ونحوه.
·وتعجيل الفطر وتأخير السحور من أخلاق النبوة
كما جاء في الحديث الذي أخرجه الطبراني في "الكبير" عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاث من أخلاق النبوة: تعجيل الإفطار، وتأخير السحور، ووضع اليمين على الشمال في الصلاة" ( صحيح الجامع: 3038 )
·والناس بخير ما عجَّلوا الفطر
كما مر بنافي الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يزال الناس بخير، ما عجَّلوا الفطر"
ومن هذا الحديث نعلم بطلان ما عليه الشيعة من تأخير الفطر حتى تظهر النجوم، ففي هذا الحديث شهادة أنهم ليسوا بخير، وهذا ما يفعله أيضا اليهود والنصارى.
ففي الحديث الذي أخرجه أبو داود والحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنهعن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"لا يزال الدين ظاهراً ما عجَّل الناس الفطر"؛لأن اليهود والنصارى يُؤخِّرون
لذلك كان صحابة النبي صلى الله عليه وسلم يعجِّلون الإفطار، ويؤخِّرون السحور تطبيقاً لهدي النبي صلى الله عليه وسلم
فقد ذكر الحافظ وكذا عبد الرزاق وغيرهما بسند صحيح عن عمرو بن ميمون الأودي قال:"كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أسرع الناس إفطاراً، وأبطأهم سحوراً".
تنبيه:
بعض الناس يظنون أنه لا يجوز لهم الإفطار إلا بعد أن يتشهَّد المؤذن، أو بعد الانتهاء من الأذان، وهذا اعتقاد باطل، حيث إنه يجوز للصائم أن يشرب أو يأكل عند سماع الأذان مباشرة، لكن يُسْتَحبُّ له ترديد الأذان للفوز بالأجر والثواب.
سابعاًً: الجلوس على الطعام، وترك صلاة المغرب:
فمن الناس مَن يجلس على مائدة الطعام بعد أذان المغرب تاركاً الصلاة، ظناً منه أن هذا هو المقصود بتعجيل الفطر وهذا خطأ، وقد وقع فاعل هذا في عدة محاذير منها:-
1- أن هذا خلاف هدي النبي صلى الله عليه وسلم، إذ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُفطِر على رطب أو تمر فإن لم يجد حسا حسواتٍ من الماء ثم ذهب الي الصلاة، ودليل ذلك ما أخرجه أبو داود والترمذى عن أنس رضي الله عنه قال: "كان رسول اللهصلى الله عليه وسلم يُفطِر على رطباتٍ قبل أن يُصلِّي، فإن لم تكن رطبات فعلى تمرات، فإن لم تكن حسا حسوات من الماء".( حسنه الألباني في الإرواء برقم: 922)
وهذا فيه ما فيه من الفوائد الصحيَّة، فلو بدأ الإنسان إفطاره بالرطب أو التمر والماء فهذا يفيد الجسم إفادة عظيمة، فقد ذكر بعض أهل الطب: أن الأمعاء تمتص المواد السكرية الذائبة في أقل من خمس دقائق، فيرتوي الجسم وتزول أعراض نقص السكر والماء فيه، لأن سكر الدم ينخفض في أثناء الصوم؛ فيؤدى إلى الشعور بالجوع وإلى بعض التوترات أحياناً، وهذا سرعان ما يزول بتناول المواد السكرية، وقال بعضهم: وأما الماء، أي الإفطار على الماء، فإن الجسم يحصل له بالصوم نوع من اليبس، فإذا رطب بالماء كمل انتفاعه بالغذاء، فصلَّى الله وسلم على نبينا الرءوف الرحيم.
(مخالفات رمضان للشيخ عبد العزيزالسرحان صـ16)
ويقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ كما في "زاد المعاد" (2/50): فإن إعطاء الطبيعة الشيء الحلو مع خلو المعدة ادعى إلى قبوله، وانتفاع القُوى به، ولاسيما القوى الباصرة، فإنها تقوى به... وأما الماء فإن الكبد يحصل لها بالصوم نوع يُبس، فإذا رطبت بالماء كمل انتفاعها بالغذاء بعده، ولهذا كان الأولى بالظمآن الجائع، أن يبدأ قبل الأكل بشرب قليل من الماء، ثم يأكل بعده، هذا مع ما في التمر والماء من الخاصية التي بها تأثير في صلاح القلب، لا يعلمها إلا أطباء القلوب. أهـ
أضف إلى هذا أن من بدأ بالرطب أو التمر والماء، ثم ذهب للصلاة، ثم رجع لتناول الطعام، فهذا لا يأكل كثيراً، فلا يصاب بالتخمة، ويذهب إلى صلاة التراويح طيب النفس نشيط، بخلاف مَن جلس مباشرة بعد الأذان للطعام، فهذا يأكل ولا يشعر بالشبع إلا بعد ثلث ساعة، كما أثبت هذا أهل الطب فيصاب بالتخمة، ويذهب إلى صلاة التراويح خبيث النفس كسلان.
2- من المحاذير كذلك ترك صلاة الجماعة في المسجد، وهي واجبة على الراجح في حق الرجال، بالإضافة إلى ضياع الأجر الكبير المترتب عليها.
3- ومن المحاذير كذلك أنه يصلِّي المغرب بعد وقته، لأن آخر وقت المغرب هو غياب الشفق الأحمر، ولكن هذا الرجل يصلي المغرب بعد غياب الشفق الأحمر، وقبل وقت العشاء بدقائق، وينقرها نقراً، والنبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا:"إن أحبَّ الأعمال إلى الله الصلاة على وقتها" (البخاري)
ثامناً: ترك الدعاء عند الفطر:
وهذا مخالف لهدي النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو عند فطره
فقد أخرج أبو داود والنسائي عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال:
"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أفطر، قال: ذهب الظمأ، وابتلَّت العروق، وثبُتَ الأجر إن شاء الله"
وهذا الدعاء يكون بعد أكل التمرات وشرب الماء؛ لأن هناك مَن يقول هذا الدعاء قبل أن يطعم شيئاً، وهذا مخالف لصيغة الدعاء، فهو يقول: ذهب الظمأ وابتلت العروق، وهذا دليل على أنه يقال بعد الإفطار، فلا يفوتك أخي الحبيب الدعاء.
فقد أخرج الإمام أحمد والبيهقي والضياء عن أنس رضي الله عنهعن النبيصلى الله عليه وسلم قال:
وأخرج الحاكم وابن ماجة عن النبيصلى الله عليه وسلم أنهقال:"إن للصائم عند فطره دعوة لا ترد".
وقفة:
كان ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ يقول عند فطره:
"اللهم إني أسالك برحمتك التي وسعت كل شيء أن تغفر لي".
تاسعاًً: الانشغال بالإفطار عن ترديد الأذان:
وهذا خطأ شائع، حيث ينشغل بعض الصائمين بالإفطار عن ترديد أذان المغرب
مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن"(متفق عليه)
فأمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بترديد الأذان دون تفرقة بين صائم وغيره، وعلى ذلك فيُسن للصائم أن يردد أذان المغرب أثناء إفطاره، ولا يوجد مانع من الجمع بينهما.
ـ والبعض يظن: أنه لا يجوز له الإفطار إلا بعد التشهد في الأذان أو الانتهاء من الأذان بالكلية، فهذا فهم خاطئ، وليس كون الصائم لا يفطر حتى يردد الأذان تأكيداً لهذا الفهم الخاطئ، فهذا أمر وهذا أمر آخر، فالصائم له أن يأكل أو يشرب بمجرد الأذان، وهو الإعلام بدخول الوقت، لكن الأفضل له لإحراز الفضل الترديد.
عاشراً: أن ينوي الإفطار ثم لا يفطر ويكمل صيامه:
فمن الناس مَن يظهر له عارض في نهار رمضان فينوي الإفطار، ثم يزول هذا العارض فينوي الصيام، فهذا صومه باطل؛ لأنه بنية الإفطار قد أفطر، وإن لم يأكل أو يشرب؛ لأن لكل امريء ما نوى؛ ولأن الشروع في الصوم لا يستدعي فعلاً سوى نية الصوم، فكذلك الخروج لا يستدعي فعلاً سوى النية؛ ولأن النية شرط أداء الصوم، وقد أبدله بضده، وبدون الشرط لا تتأدَّى العبادة.
(المجموع:6/314) (المغني:3/25).
وقال بعض أهل العلم: إن النية ركن، واستصحابها أثناء العمل شرط صحة.
أي: أن يكون عزم الإمساك عن المفطرات مصاحباً له في جميع أجزاء النهار.
وهذا مذهب الشافعي، وظاهر مذهب أحمد، وأبي ثور، والظاهرية
ملاحظة:
ما سبق ذكره هو في صيام الفرض، فلو نوى الإفطار في نهار رمضان، فقد أفطر ـ كما سبق ـ، حتى لو نوى الصيام بعد ذلك؛ لأن من شروط صيام الفرض تبييت النية من الليل، وقد فاته ذلك.
فقد أخرج أبو داود والترمذي من حديث حفصة ـ رضي الله عنها ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"مَن لم يُجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له".
·أما بالنسبة لصيام النافلة: فيجوز إنشاء نية في أثناء النهار، وعليه لو نوى الصائم (صيام النفل)
ـ الإفطار فقد أفطر كما مر ـ، لكن لو نوى وعاود الصيام قبل أن يأكل ويشرب صحّ صومه،
لكن هل يأخذ أجر الصيام كاملاً؟ خلاف بين أهل العلم، والراجح من كلام الحنابلة والشافعية أن يؤجر على ما نواه مؤخراً، أي إذا نوى الصيام من الظهر، فإنه يُؤجر على الصيام من الظهر إلى المغرب، خلافاً للحنفية الذين قالوا: يُؤجر على صيامه كاملاً، أي: من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس، حتى وإن نوى الصيام الظهر، ورأى الحنابلة والشافعية أرْجح؛ لقول النبيصلى الله عليه وسلم:
"إنما الأعمال بالنيات"
أحد عشر: البعض يتحرَّج من تذوُّق الطعام والشراب أثناء الصيام:
والراجح أنه جائز بشرط ألا يدخل شيء من الطعام أو الشراب إلى حلقِهِ، ويمجه بعد التذوق
فقد أخرج ابن أبي شيبة بسند حسن عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال:
"لا بأس أن يذوق الخل أو الشيء، ما لم يدخل حلقه وهو صائم"(له شاهد عند البخاري معلقاً)
وفي رواية عند البيهقى:"لا بأس أن يتطاعم الصائم العسل والسمن ونحوه ويمجه".
(حسنه الألباني في الإرواء: 4/86).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله- كما في "مجموع الفتاوى" (25/266):
وذوق الطعام يكره لغير الحاجة، لكن لا يفطره، وأما للحاجة فهو كالمضمضة.
ملاحظة:
ـ في معنى التذوق: مضغ الطعام للحاجة،فقد أخرج عبد الرزاق عن يونس قال:
رأيت الحسن – أي البصري – يمضغ للصبي طعاماً – وهو صائم – يمضغه ثم يخرجه من فيه، يضعه في فم الصبي
ـ البعض يعتمد في الإفطار أو الإمساك عند السحور على المدفع
فهناك أمر محدث وهو ما يعرف بمدفع الإفطار أو مدفع الإمساك، حيث يعتمد عليه البعض في إفطاره وكذلك الإمساك عند السحور، وهذا خطأ، إذ المعول عليه هو الأذان، أذان المغرب للإذن بالإفطار، وأذان الفجر للإذن بالإمساك.
ثاني عشر: الإسراف في تناول الطعام والشراب:
فالناس في رمضان يستكثرون من تناول ألوان الطعام والشراب، يرددون: "حيَّاك الله يا رمضان بالقرع والباذنجان"، فترى الناس في رمضان ينفقون الأوقات والأموال في إعداد أصناف الطعام، فإذا أكلوا فإنهم يأكلون أكل المنهومين، ويشربون شرب الهيم، فيكون رمضان شهر التخمة والسمنة وأمراض المعدة، وهؤلاء الذين قال عنهم النبي صلى الله عليه وسلم كما عند البيهقي:
"شرار أمتي الذين غُذُّوا بالنعم، الذين يأكلون ألوان الطعام، ويلبسون ألوان الثياب، ويتشدقون في الكلام"
وصدق القائل حين قال:
يا خـادم الجسم كم تسعـى لخدمته
أتطلب الربح فيما فيه خسران
أقبل على النفس واستكمل فضائلها
فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان
فمن أراد أن يفوز برمضان، ويستشعر حلاوة الإيمان، ويتمتع بقراءة القرآن، ويتلذذ بطول القيام؛ فعليه ألا يُكثِر من الطعام والشراب، امتثالا لقوله تعالى:
وقد نقل عن بعض السلف أنه قال: إن الله جمع الطب كله في هذه الآية
وقال ابن القيم – رحمه الله – في "زاد المعاد" تعليقاً على هذه الآية:
فمتى جاوز ذلك كان إسرافاً، وكلاهما مانع للصحة جالب للمرض، أعني عدم الأكل والشرب أو الإسراف فيه، فحفظ الصحة كله في هاتين الكلمتين، وصدق النبي صلى الله عليه وسلم حين قال:
"كل واشرب من غير إسراف ولا مخيلة"
فالإفراط في المأكل والمشرب سبباً لكثير من الأمراض، ومدعاة للكسل والفتور عن الطاعة والعبادة ذكر البيهقي كما في "شعب الإيمان" (5/22) عن الحليمي – رحمه الله – أنه قال:
وكل طعام حلال، فلا ينبغي لأحد أن يأكل منه ما يثقل بدنه؛ فيحوجه إلى النوم، ويمنعه من العبادة، وليأكل بقدر ما يسكن جوعه، وليكن غرضه من الأكل أن يشتغل بالعبادة ويقوى عليها. أهـ
يقول الشافعى – رحمه الله-:"البطنة تذهب الفطنة".
وكان بعض العلماء يقول:
إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة، وخرست الحكمة، وقعدت الأعضاء عن العبادة.
وعلى هذا ينبغي على الإنسان منا أن يقوم عن الطعام قبل الشبع
فقد أخرج الإمام أحمد والترمذي عنالمقدام بن معديكرب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"ما ملأ أدميٌ وعاءً شراً من بطنه, بحسب ابن آدم أُكُلاتٌ ـ وفي رواية: لُقيماتٌ ـ يقمنَ صلبه، فإن كان لا محالةَ، فثُلُثٌ لطعامه، وثُلُثٌ لشرابه، وثُلُثٌ لنفَسِهِ"
ـ أُكلات: لُقم.(صحيح الجامع:5674)
يقول ابن القيم – رحمه الله – في "زاد المعاد"( 4/18) شارحاً لهذا الحديث:
الأمراض نوعان: أمراض مادية تكون عن زيادة مادة أفرطت في البدن، أضرَّت بأفعاله الطبيعية، وهي الأمراض الأكثرية، وسببها: إدخال الطعام على البدن قبل هضم الأول، والزيادة على القدر الذي يحتاج إليه البدن، وتناول الأغذية القليلة النفع، البطيئة الهضم، والإكثار من الأغذية المختلفة التراكيب المتنوعة، فإذا ملأ الآدمي بطنه من هذه الأغذية واعتاد ذلك، أورثته أمراض متنوعة، منها بطئُ الزوال وسريعُه، فإذا توسَّط في الغذاء، وتناول منه قدر الحاجة، وكان معتدلاً في كميته وكيفيته، كان انتفاع البدن به أكثر من انتفاعه بالغذاء الكثير، ومراتب الغذاء ثلاثة:-
فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن يكفيه لقيمات يُقمن صلبه، فلا تسقط قوته، ولا تضعف معها، فإن تجاوزها، فليأكل في ثلث بطنه، ويدع الثلث الآخر للماء، والثلث للنَفَسِ، وهذا من أنفع ما للبدن والقلب، فإن البطن إذا امتلأت من الطعام ضاق عن الشراب، فإذا ورد عليه الشراب ضاق عن النفس، وعرض له الكرب والتعب بحمله بمنزلة حامل الحمل الثقيل، هذا إلى ما يلزم ذلك من فساد القلب، وكسل الجوارح عن الطاعات، وتحركها في الشهوات التي يستلزمها الشبع، فامتلاءُ البطن من الطعام مضر للقلب والبدن، هذا إذا كان دائماً أو أكثرياً. أما إذا كان في الأحيان، فلا بأس به، فقد شرب أبو هريرة بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم من اللبن حتى قال: "والذي بعثك بالحقِّ، لا أجد له مسلكاً" (أخرجه البخاري)، وأكل الصحابة بحضرته مراراً حتى شبعوا، والشبع المفرط يُضْعف القُوى والبدن، وإن أخصبه، وإنما يَقْوَى البدن بحسب ما يَقْبلُ من الغذاء، لا بحسب كثرته، ولما كان في الإنسان جزء أرضي، وجزء هوائي، وجزء مائي، قسَّم النبي صلى الله عليه وسلم طعامه وشرابه ونفسه على الأجزاء الثلاثة.
فعلى الإنسان أن يقتصد في مطعمه، ومشربه، وملبسه، وهذه من أخلاق النبوة
فقد أخرج الإمام أحمد وأبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"إن الهدْيَ الصالح، والسَّمْتَ الصالح، والاقتصادَ جزءٌ من خمسةٍ وعشرين جزءاً من النبوة" (صحيح الجامع:1993)
فالعاقل من يأكل ليعيش، لا أن يعيش ليأكل.
ملاحظة:
الحديث الذي أخرجه ابن السني وأبو نعيم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "صوموا تصحُّوا"
حديث ضعيف، ضعفه الألباني ـ رحمه الله ـ لكن معناه صحيح
ويؤيد هذا المعنى الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: "والصيام جُنَّة"
أي: وقاية من أدواء الروح والقلب والبدن، فالصوم له تأثير عجيب في حفظ الجوارح الطاهرة، والقوى الباطنة، فهو يحفظ على القلب والجوارح صحتها، ويعيد لها ما استلبته منها أيدي الشهوات وهو من أكبر العون على التقوى.
فالصيام والجوع له فضائل وفوائد كثيرة منها:-
صفاء القلب ورقته، كسر الشهوة في النفس وحفظ الجوارح، صحة البدن، التفرغ للعبادة، قهر الشيطان، تذكر حال الفقراء والمساكين، شكر النعمة، وغير ذلك من الفوائد والفضائل والتي تضيق في هذا المقام حصرها.
وقفة مع الحبيب النبي صلى الله عليه وسلم:
ـ أخرج البخاري من حديث أبي هريرةرضي الله عنه:
"أنه مرّ بقوم بين أيديهم شاة مصلية فدعوه فأبى أن يأكل، وقال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدنيا، ولم يشبع من خبز شعير"
ـ وفي صحيح مسلم عن النعمان بن بشير ـ رضي الله عنهما ـ قال:
"ذكر لعمر بن الخطاب رضي الله عنه ما أصاب الناس من الدنيا، فقال: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يظل اليوم يلتوي ما يجد من الدقل، ما يملأ به بطنه"
ـ الدقل:ردئ التمر.
ـ وأخرج الترمذي من حديث ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال:
" كان رسول الله يبيت الليالي المتتابعة وأهله طاوين لا يجدون عشاء، وإنما كان أكثر خبزهم الشعير"
ـ وعند الترمذي كذلك من حديث طلحةرضي الله عنهقال:
"شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ورفعنا ثيابنا عن حجر عن بطوننا، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حجرين"
وعند الإمام أحمد من حديث أنس بن مالكرضي الله عنه قال:
"إن فاطمة ـ رضي الله عنها ـ ناولت النبي صلى الله عليه وسلم كسرة من خبز شعير[ فقال: ما هذه، فقالت: قرص خبزته، فلم تطب نفسي حتى أتيتك بهذه الكسرة] فقال لها: هذا أول طعام أكله أبوك منذ ثلاثة أيام"
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل اللهUأن يرزقه طعاماً يسد الرمق فقط
ففي "الصحيحين" عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً"
ـ القوت:ما يسد الرمق.
وأخيراً علينا أن نتذكر كلام الحبيب النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال:
"أكثركم شبعاً في الدنيا أكثركم جوعاً في الآخرة"
ثالث عشر: الاعتقاد بأن مَن أكل أو شرب ناسياً بَطُلَ صومه:
وهذا خطأ، فإن الأكل والشرب ناسياً لا يبطل الصوم، والصيام صحيح
وذلك للحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"مَن نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه"
ويستوي في ذلك الفرض والنفل؛ لعموم الأدلة عند الجمهور، خلافا للإمام مالك والذي خص الحكم بصيام الفرض دون النفل، والصحيح أنه لا فرق.
رابع عشر: الإفطار أو السحور على أنغام الموسيقى:
فتجد بعض المطاعم تعلن إفطاراً أو سحوراً على أنغام الموسيقى، وهذا أمر عُجَاب لا يحتاج إلى تعليق، والأعجب منه أنك تجد مَن يستجيب لهذا الإعلان؛ فيفطر على أنغام الموسيقى، فهذا صام عن الحلال وأفطر على معصية الله، ما كهذا تشكر النعم، أنا لا أتكلم عن حكمالغناء فهذا أمر معروف، وهؤلاء الذين يتسحَّرون على أنغام الموسيقى، وقد نالهم من الإثم ما نالهم أيضاً وقد فاتهم من الفضل ما فاتهم، فاتهم ثناء الله عليهم في الملأ الأعلى ودعاء الملائكة لهم.
فقد ثبت في "مسند الإمام أحمد" عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن الحبيب النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"السحور بركة فلا تدعوه ولا أن يجرع أحدكم جرعة من ماء، فإن الله وملائكته يصلُّون على المتسحرين"( صحيح الجامع: 3683)
خامس عشر: الجمع بين التمر والزبيب:
فلا يجوز خلط شيئين مما يقبل الانتباذ (النقع) في الماء، كالبُسر والرطب، والتمر والزبيب، وقد ذهب إلى تحريم الخليطين ـ وإن لم يكن مسكراً ـ الإمام مالك، وهو ظاهر كلام أحمد والشافعي، وبه قال إسحاق، وابن حزم (غير أن ابن حزم خص بالتحريم الأنواع والمذكورة فقط دون غيرها)
ودليلهم في تحريم الخليطين:-
1ـ ما أخرجه البخاري ومسلم عن أبي قتادةرضي الله عنهقال:
"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجمع بين التمر والزهو، والتمر والزبيب، ولينبذ كل واحد منهما على حدة".
2ـ وأخرج الإمام مسلم عن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنهما ـ:
"أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يخلط الزبيب والتمر، والبسر والتمر"
ووجه النهي عن انتباذ الخليطين أن الإسكار يسرع إلى ذلك بسبب الخلط قبل أن يتغير، فيظن الشارب أنه ليس بمسكر، ويكون مسكراً، فنهى عنه سداً للذريعة.
ـ وذهب الجمهور من الشافعية والحنابلة:
إلى أنه يحرم الخليطين إن وصل إلى حد الإسكار، أما إذا لم يصل إلى حد الإسكار فإنه يكره فقط.
ـ بينما ذهب أبو حنيفة: بجواز الخليطين ما لم يصل إلى حد الإسكار،واستدل بحديث ضعيف أخرجه ابن ماجة عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت:
"كنا ننبذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم في سقاء، فنأخذ قبضة من تمر، وقبضة من زبيب فنطرحها، ثم نصب عليه الماء، فننبذه غدوة، فيشربه عشية، وننبذه عشية، فيشربه غدوة"
والراجح: هو ما ذهب إليه الفريق الأول من أهل العلم من تحريم الخليطين، وإن لم يكن مسكراً؛ لأن النهي يقتضي التحريم ما لم يصرفه صارف.
ثم إن من المعلوم أنه إذا وُجد الإسكار حَرُم الشراب سواء كان من خليطين أو من نوع واحد مستقل
هو مباح إذا كانت مدة الانتباذ قريبة أو يسيرة، بحيث لم يشتد ولم يصر مسكراً، وحدّ الحنابلة هذه المدة بيوم وليلة، وأما المالكية والشافعية فلم يعتبروا المدة وإنما اعتبروا الإسكار (وهو الأقرب للصواب)
1ـ فقد أخرج الإمام مسلم عن جارية حبشية قالت:
" كنت أنبذ للنبي صلى الله عليه وسلم في سقاء من الليل وأوكيه وأعلقه، فإذا أصبح شرب منه"
2ـ وأخرج الإمام مسلم أيضاً عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال:
" كان رسول الله صلى الله عليه وسلمينتبذ له أول الليل فيشربه إذا أصبح يومه ذلك، والليلة التي تجيء، والغد، والليلة الأخرى، والغد من العصر، فإذا بقي شيء سقاه الخادم، أو أمر به فصُبّ"
أي: إن كان بدا في طعمه بعض التغيير، ولم يشتد سقاه الخادم، وإن اشتد أمر بإهراقه. أهـ
(صحيح فقه السنة: "2/ 391 ـ 393" بتصرف)
وللحديث بقية ـ إن شاء الله تعالى ـ مع "أخطاء عامة في شهر رمضان "
وبعد...،
فهذا آخر ما تيسر جمعه في هذه الرسالة
نسأل الله أن يكتب لها القبول، وأن يتقبلها منَّا بقبول حسن، كما أسأله سبحانه أن ينفع بها مؤلفها وقارئها ومن أعان على إخراجها ونشرها......إنه ولي ذلك والقادر عليه.
هذا وما كان فيها من صوابٍ فمن الله وحده، وما كان من سهوٍ أو خطأ أو نسيانٍ فمنِّي ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وهذا بشأن أي عمل بشري يعتريه الخطأ والصواب، فإن كان صواباً فادع لي بالقبول والتوفيق، وإن كان ثمّ خطأ فاستغفر لي
وإن وجدت العيب فسد الخللا
جلّ من لا عيب فيه وعلا
فاللهم اجعل عملي كله صالحاً ولوجهك خالصاً، ولا تجعل لأحد فيه نصيب
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلّى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
هذا والله تعالى أعلى وأعلم.........
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تسلــم الأيــــادي على الإنتقـــاء المميز والقيـــم
وبارك الله فيك على الطرح الرائـع وجزاك الله خيرا
لمـــا تقدمــــه من مجهــــودات طيبـــة .
واصل تميــــزك وتألقـــك ، في إنتظــــار جديـــدك
تحيـــــــاتي.