الإهـداء ..
إليهما .. أبي و أمي
اللهم ارحمهما كما ربيّاني صغيراً .
معتصـمـ ..
[ ذكريــات شجــرة ]
ما زال صوت الضجيج الناتج عن محرك الشاحنة الصغيرة يملأ ُ أذناي و العمّال الذين شاركوا هذه الحفلة الإيقاعية بغنائهم الشجيّ ببحة ِ
صوتهم التي تضيف لروعة ما يُصدرون من حناجرهم روعة ً إضافية , هم لم يتعلموا الغناء في مدارس البالي المُترفة بل تعلموها في مدرسة
الحياة . تتعثرُ الشاحنة من حين ٍ إلى آخر فالطريق الذي تعبره لم يُعبّد بعد و حُفر تقبعُ هنا و هناك و كأنها تنتظر هذه الفرصة منذ زمن حتى
تسبب الألم و الأوجاع لكل من تسوّل له نفسه عبور هذه الطريق ..
لم أعرف بعد لما أنا هنا و أين نحنُ ذاهبون كل ما أعرفه أنني بجوار الكثير من معارفي و هذا ما بثّ في نفسي الطمأنينة حتى جاءتْ تلك اللحظة
التي توقف بها صوت المُحرك عن الهدير ثم تعالى بعدها صوت سائق الشاحنة ذو الشعر المُشتعل بالشيب ( يا عامر , نزلوا الحمولة على أقل من
مهلكم , ثم أردف قائلاً ( همّتكم يا شباب ) .. كان النهار قد انتصف و الشمس اتخذتْ من وسط السماء مُستقراً لها و جو مثل تموز يكون القيظ و
الحرّ لم تكد كلمات أبو رمزي الرجل الذي على أرجح أنه تعدى العقد الخامس من عمره تنتشر في الفضاء حتى باشر العمّال نقل الأشتال المغروسة
في الطين الجاف اليابس الملفوف بأكياس سوداء من ظهر الشاحنة إلى الأرض و لمّا فرغوا قاموا بتوزيع الأشتال على نواحي مختلفة , لأول وهلة
أبصرتُ فيها هذا الإمتداد اللامُنتهي من أشجار البلوط شعرتُ أنني في محيط اليابسة لا محيط الماء هذا الذي لم أبصرهُ في حياتي و إنما سمعتُ مرةً
بحار جاء إلى مشتلنا القديم و أخذ يتحدث عن البحر و عن طيور النورس البيضاء و عن الميناء و طرق الصيد المختلفة كان يتحدث بلهجة أهل
تلك المنطقة و صاحب المشتل يُنصت له و يقاطعه كلما لبُس عليه شيء استعصى عليه فهمه ..
مرّت الساعات فتعاقبت على إثرها الأيام و أنا بجانب شجرة بلوط هرمة أظنها قد تجاوزت التسعين عام , فأغصانها المتيبّسة و أوراقها الباهتة
اللون و جذعها الضخم الذي تتخلله الثقوب و الذي اتخذته طيور نقار الخشب مأوىً لها و من على امتداده الشاسع تصول و تجول الحشرات بشتى
أنواعها متشبّثة ً بما تجده من مُخلفات البشر الذين يأتون إلى هنا عادة ً من أجل الترويح عن النفس و تناول الأكل المشوي غيرُ عابئين بما قد
يسببه ثاني أكسيد الكربون من أضرار فادحة في البيئة . هكذا مرّ الأسبوع الأول بشعور ٍ من الغُربة خاصة ً بعد فراق من كان في الأمس ونيسي
و صديقي لأجد نفسي اليوم في أرض جديدة و فضاء جديد و جارٌ جديد قد تعاقبت عليه السنون فزودّته بزاد المعرفة و الخبرة و مكّنته من مجابهة
الريح أقصد تلك العجوز التي تقع بالقرب مني باسطة ً جذورها في الأرض لتعلن التحدي أمام الجميع أمام كل الجيران حتى لو كانوا جدداً مثلي ..
شعرتُ بتشرب جسمي لضوء الشمس الساقط عليه فاكتسى جسدي يوماً بعد يوم بالخضار و أينعتْ أوراقي و نمت أضلاعي و اشتدّ جذعي بالرغم
من أن الماء الذي كان يصلُ جذوري قليل جداً و كذا الحال مع أندادي الذين لطالما صرخوا و طالبوا صاحبة الظل الطويل بالإشفاق على حالهم و
السماح لهم بالمزيد من الماء إلا أن مطالبهم لم تلقَ الصدى المطلوب و كأن موج البحر ابتلعه عن سبق إصرار ٍ و ترصد . كنتُ في بعض الأحيان
أشعر بأن هذه العجوز ليست كائن حيّ و إنما هي صخرة على هيئة شجرة ! , و صخرة كبيرة أيضاً حتى أن ضوء الشمس بات مهدداً بفعل صدّ
عروقها الممتدّة و أغصانها المتشعبة و أوراقها الكثيفة مما حدا بالأشجار المتضررة الإحتجاج مجدداً و التعبير عن مدى استيائها من هذه الأعمال
الغير مبررة من قِبل تلك الشجرة المُسنة التي ظننا أن العمر أعطاها حكمة السنين فبائت ظنونا قاصرة غير صحيحة ..
رحل تموز و جاء الشتاء و اجتمعتْ الغيوم في السماء و ضرب البردُ فأسه القديم في العظام و العروق و تساقط المطر حتى إذا ما لبث عازفاً عن
التساقط أكمل معزوفته و استمر في تناغم ٍ رتيب و الشجر من حوله و من كل الجهات تنظرُ إليه و في النفوس مشاعرٌ مختلطة تارة ً فرحة و تارة ً
أخرى حزينة متألمة , فسعادتها بالإنتعاش و السقاية و أما ما يُكدّر عليها فظلمُ تلك الشجرة المنتصبة أمام الجميع و التي لا تكفُ عن ظلمهم جهاراً
نهاراً و التقنين عليهم بما يُعد أهم الموارد التي يحتاجها النبات و يعوزها ..
انقطع المطر و توالتْ دموع الشجر رجوْها جميعاً التخفيف و الإفساح فأبتْ ذلك طالبوها الحوار فالتزمتْ الصمت و هذا ما زاد المُعاناة كانوا بأمسّ
الحاجة لردّة فعل لتحرك لإنفعال لكن هذا الذي لم يكن في قاموسها أثقلَ كاهل الأشجار بل هم شجيرات لفارق العمر بينهم و بينها , استمر الحالُ
كذلك حتى جاء صباح ذلك اليوم الذي و على حين غِرة اجتمع فيه مجموعة من بني البشر تحت تلك الشجرة و استظلّوا بظلها المديد و أخذوا
يتكلمون , و بينما هم كذلك ظهر للأشجار ملامح الخوف و الإرتباك و الذعر الشديد على تلك العجوز الذي ارتسم على كيانها بتساقط الأوراق
و انكماش الجذور , فأدركتْ حينها الأشجار بفطرتها و حاستها أن الأمر قد انقضى و قد حان ما كان في الأمس مأمولاً في الغد فحلّ الغد ليكون
اليوم ليكون نهاية شجرة أدخلتْ الظلم مصطلحاً و تطبيقاً في دنيا نفوس ناشئة حالمة ..
بدأ أزيز المِنشار الآلي يتصاعد مع مرور الوقت و صيحات العمّال و إرشادات المشرف العام تمليّ على الآخرين فعل ما يجب و تجنب ما لا يجب .
حينها رمقتْ العجوز الأشجار الأخرى رمقة َ حزن و آسى , ألم يعتصرُ الفؤاد و يُرهق الأعصاب التي باتت مشدودة في مشهد لم أشهده أنا تحديداً
من قبل , لم أتخيّل يوماً مفارقة هذا الجبل الذي يصدُ عنّا الضوء و يحرمنا نعمة الماء التي جعل الله منها كل شيء حيّ ..
فارقتنا تلك العجوز و على إثره اشرقتْ وجوه الأشجار و ابتسمتْ الثغور إلا أن إحساساً داخلي كان يُعكّر علي صفوة حالي و يشغل بإستمرار ٍ بالي
لا أعرف لماذا أشعر بالضيق حيال رحيل تلك الشجرة و الحنين الذي يشغفُ به قلبي إليها بين الفينة ِ و الأخرى , لعليّ شعرتُ بالغربة يوماً و
لكنني أحسّها مضاعفة ً في يومي الذي أحيّاه الآن و في وقتي الجاري الماضي إلى الأمام دون توقف أو حتى على الأقل نظرة إلى الخلف ..
أكتبُ آخرُ كلماتي في صفحة الذكريّات و أنا و هم نعاني من ضربات سوط الريّاح العاتية و كلنا نسِرّ في صدورنا " لعلّها كانت يوماً قاسيّة و لكنها
خففتْ عنّا وطأة سياط الريح ! .."
( النهايـة )
بقلمي
معتصمـ ..