
خرجت من بيتها ليلاً كالمجنونة،تبكي بكاءاً يفتّتُ جبروت الصخر،وتصرخ صراخ طفل رضيع،
ضاقت عليها الأرض وما عادت قادرة على حمل أحزانها،مشتاقة هي إلى حبيب الروح
وما من أحد يأخذها إليه،
رفعت يديها إلى السماء،ونادت بأعلى صوتها:
يا غيمة...يا غيمة
هل تسمعين ندائي؟؟هل ستأخذيني إلى حبيبي؟؟
ما عدت أقوى على فراقه،أشتاقت العين إلى رؤياه،
وأشتاقت الروح إلى محياه،خذيني إليه يا غيمة،
فلا طعم للحياة بدونه،أريد لقبري أن يحتضن قبره،
موته أحرقني،وشوقي له جعلني أطلب الموت في كل لحظة تغمض به عيني،رحل عني وتركني في نار الشوق تكويني وتمزّق أوردتي،
أجيبيني يا غيمتي...هل ستجمعيني بحبيبي؟؟
لا تحزني يا فتاتي....ولا تطلبي الموت فالحياة تطلبكِ.
فتبعت العاشقة المسكينة مصدر الصوت،
فإذا بها تجد نفسها أمام عجوزٍ طاعنة في السن،
تجلس مع قطتها على حافة الرصيف،تحت شجرة صنوبر ضخمة،فسألتها الفتاة:
لما تجلسين هنا يا سيدتي؟؟ هل خرجت من منزلك تنشدين الموت مثلي؟؟
فقهقهت العجوز وقالت:لا يا ابنتي، لا زلت صغيرة على الموت، ولا زلت أعشق الحياة وأريد أن أعيشها،
فتعجبت الفتاة لكلامها،وسألتها:
راغبة أنت في الحياة مع وجهك المجعّد هذا؟؟
أسعيدة وأنت برفقة قطة لا تفهم لغة عينيك ولا تصغي إلى شكواكِ؟؟
فابتسمت العجوز وأردفت قائلة:
لست غبية لأشكو همي إلى قطة ضعيفة،بل إني ألوذ بالقوي الجبار،ألوذ برب الأكوان،أناجيه فيسمعني،وأدعوه فيلبي دعائي،وأرجوه فيستجيب لرجائي،هو الذي إن رماني موج البحر أنقذني،وإن قسى عليّ الزمان صبرّني،
هو الكريم يا ابنتي،ربٌ عظيم أنساني جرح أولادي،
جعلني أتحمل قسوة الشارع وظلمة الطريق،
إنه الرحيم الذي أنقذني من تجبر أبنائي وأنانيتهم،
أرادوا لي أن أعيش في ملجأٍ للعجزة،ولكنني رفضت،فغافلتهم في ليلة وخرجت إلى هنا،إلى شجرة الصنوبر الحنونة،لأصادق ظلالها،وأنسى شقاء الأيام وتمرد الليالي،لما سأطلب الموت يا ابنتي إن كان الله يريد لي أن أعيش؟؟
فبكت الفتاة وقالت:
ها أنت يا سيدتي تنشدين الحياة رغم بعدك عن أبنائك،أما أنا فأطلب الموت لألقى حبيبي،غريبة هي الدنيا،تضحكنا كثيراً..وتبكينا كثيراً،
آهٍ يا سيدتي، كأن رب العالمين أرسلك لي،
لتصبريني وتطفئي بركان الحزن في قلبي،يا ليتني فعلت مثلك ولجأت لربي،لكن الشيطان أبعدني حتى عن الذكر والصلاة،جعلني أغرق في بحر من الذنوب فأعترضت على القدر،وطلبت الموت،وهجرت اهلي،وتركت منزلي وسريري،
فردت العجوز:
لم يفت الأوان بعد يا فتاتي،فرب الكون موجود وينتظرك،تعالي معي لنصلي في المسجد القريب من هنا،ستجدين العالم من حولك قد تغيّر،فليكن حبك لله أقوى من حبك لعبيده،ولو شاء القدر سيجمعك العظيم بحبيبك في جنات الخلد إن شاء الله...
وذهبت العجوز وبصحبتها العاشقة المسكينة وهي تمسك يدها كالأم الحانية،ودخلتا المسجد،فصلت العجوز وبجانبها الفتاة،
ثم قالت العجوز:
هيا الآن يا ابنتي عودي لمنزلك وفراشك الدافئ،
وأحمدي الله أن لك بيتاً يأويك ويحميك،وأنا سأنام هنا في بيت الرحمن،وتذكري يا حبيبتي إن كنت مع الله ستجدينه تعالى دائماً معك.
فقبّلت الفتاة يد العجوز وشكرتها وعادت إلى منزلها سعيدة وهي تقول:
لله في الكون آياتٌ لعلّ أقلّها هو ما إليه هداكا..
فأن ضاقت بنا الأرض فلنقل:
بك نستجير ومن يجير سواكا؟؟!
بقـــــلمي الإشـراقـي

|