الإسلام يحافظ على الكيان الأُسري
وقد اعتنى الإسلام أعظم العناية بالأسرة، وشرع لها نظامًا دقيقًا مُحكمًا، بَيَّنَ فيه حقوق وواجبات أفرادها، ونَظَّم معاملات الزواج، والنفقة، والميراث، وتربية الأولاد، وحقوق الآباء، كما غرس بينهم المحبَّةِ والمودَّة والرحمة؛ وذلك لأنَّ في تقوية الأُسْرَةِ وضبط سلوك أفرادها تقويةً للمجتمع وضبطًاُ لحركته، ونشرًا للقيم الإنسانية والاجتماعية الرفيعة بين أبنائه، وهكذا يرتقي الإسلام بالمجتمع في صورة حضارية لا مثيل لها، ويبعد به عن الفوضى والتحلل الخُلُقي وضياع الأنساب.
ولقد اهتم الإسلام بأفراد الأسرة ومنحهم من الحقوق، وجعل عليهم من الواجبات ما يضمن للحياة الأسرية الاستقرار والاستمرار:
أولًا: بالنسبة للزوجين: تقوم الأسرة على دِعامتين مهمَّتَيْنِ هما أساس تكوينها: الرجل والمرأة؛ أي الزوج والزوجة , فهما الأساس في تكوين الأسرة وإنجاب الذُّرِّيَّة , وتناسُل البشريَّة التي تتكَون منها الأُمَّة والمجتمع؛ يقول الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ﴾ [النساء: 1]، ويقول أيضًا: ﴿ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ﴾ [النحل: 72].
ولقد اعتنى الإسلام عناية فائقة بهاتين الدعامتين الأساسيتين، فوضع تشريعًا مُحكَمًا للعلاقات الزوجيَّة، ورسم حدودًا واضحة لكل واحد منهما بما له وما عليه، وقسَّم الأدوار بين الزوجين؛ ليقوم كل واحد منهما بدوره الكامل في بناء الأسرة، والمساهمة في بناء المجتمع الإنساني على امتداده، فَسَنَّ الإسلام أوَّلًا أمر الزواج، وهدف من ورائه حفظ النوع الإنساني وإمداد المجتمع بأفراد صالحين يُستخلفون في الأرض، ويقومون بمسؤولية البناء والإعمار التي هي مقتضى الخلافة فيها وكذلك هناك هدف آخر من وراء الزواج وهو: حصانة الفرد والمجتمع من الرذيلة والتردي الأخلاقي؛ حتى إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال مخاطبًا الشباب:
"يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ: مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ؛ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ"؛ (رواه البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه).
ولَمَّا فَكَّر البعض في التفرُّغ للعبادة واعتزال النساء، زجرهم الرسول صلى الله عليه وسلم ونهاهم عن ذلك، وهو ما جاء في القصة التي يرويها أنس بن مالك رضي الله عنه؛ حيث يقول:جاء ثلاثة رهطٍ إلى بيوت أزواج النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلمَّا أُخْبِرُوا كأنَّهم تَقَالُّوهَا فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم؛ قد غُفر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخر؟ قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدًا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أُفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فقال: أنْتُمُ الَّذِينَ قُلتُمْ كَذَا وكَذَا، أمَاَ واللَّهِ إنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وأَتْقَاكُمْ لهُ، لَكِنِّي أصُومُ وأُفْطِرُ، وأُصَلِّي وأَرْقُدُ، وأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فمَن رَغِبَ عن سُنَّتي فليسَ مِنِّي"؛ (رواه البخاري ومسلم)، وقد قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآَيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ ﴾ [الرعد: 38].
ولقد جَنَتِ الإنسانية على نفسها الكثير جراء هذا التفكير القاصر ممن ترهبنوا وحرَّموا الزواج من تلقاء أنفسهم؛ حتى إن العقلاء في أوربا لَمَّا رأوا الرهبنة لا تنتج إلا الفساد في الظلام، حرَّموها بعد تجارب خمسة عشر قرنًا من الاضطراب والخلل؛ حيث آل الأمر بالكثير من الكهان والقساوسة إلى ممارسة اغتصاب الأطفال من الذكور والإناث، حتى إنه شاع هذا في أوربا وأمريكا، واستقال أو فُصل المئات منهم، واضطربت الكنيسة وفزعت لهول هذه الانحرافات والاعتداءات الجنسية، وقد جنبنا ديننا الحنيف هذا كله، وأراحنا من تجارب بائسة ومن آلام مريرة؛ (انظر حقوق الإنسان في القرآن والسُّنَّة لمحمد بن أحمد بن صالح ص 134).
كما هدف الإسلام من وراء الزواج أيضًا حصول السكن النفسي للفرد؛ مما يجعله يُفرغ ما يعتمل في نفسه من مشاعر وعواطف تدفعه إلى العطاء والإبداع، ويعد الزواج أيضًا ملاذًا لكل من الزوجين؛ يُفضي أحدهما إلى الآخر، ويكون له نعم الأنيس ساعة الوحدة، ونعم الجليس ساعة الغربة؛ قال الله سبحانه: ﴿ وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الروم:21]، وبهذه الأركان الثلاثة الواردة في الآية الكريمة (السكن والمودة والرحمة) تتحقق السعادة الزوجية التي أرادها الإسلام.
وقد أمر الإسلام الزوجين بأن يُحسن كل واحد منهما اختيار صاحبه، فقال تعالى: ﴿ وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [النور: 32].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم يأمر الزوج باختيار الزوجة الصالحة ذات الدين: "تُنْكَحُ المَرْأَةُ لأَرْبَعٍ لِمَالِهَا وَلِحَسَبِهَا وَجَمَالِهَا وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ"؛ (رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه).
وقال صلى الله عليه وسلم: "الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ"؛ (رواه مسلم).
وكان صلى الله عليه وسلم يأمر الزوجة باختيار زوجها على نفس المعيار والأساس، فقال صلى الله عليه وسلم: "إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ، إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ"؛ (رواه الترمذي وابن ماجه والحاكم) (الصحيحة: 1022).
ولا ريب في أن هذا الاختيار وذاك الأساس من شأنه أن يعود بالنفع على المجتمع الإنساني؛ إذ من شأنه أن يخرج جيلًا صالحًا هو ثمرة هذين الزوجين الصالحين؛ لينشأ بعد ذلك في أسرة ودودة متحابة تعيش في ظل المبادئ والقيم الأخلاقية الإسلامية.
ولَمَّا كان عقد الزواج من العقود ذات الشأن الكبير، لَزِمَ أن تسبقه مقدمات تمهد له، وتضمن بقاءه ودوامه، بل إن الشريعة الإسلامية لم تعتن بمقدمات أي عقد من العقود سواه، فقد اعتنت بها وجعلت لها أحكامًا خاصة، ومقدمات عقد الزواج هي ما يعرف بالخطبة.
كما تشترط الشريعة الإسلامية لصحَّة عقد النكاح: وجوب إشهاره، والحكمة في ذلك أن له شأنًا عظيمًا في نظر الإسلام؛ لِما يحقِّقه من المصالح الدينية والدنيوية، فهو جدير بأن يظهر شأنه ويذاع أمره؛ وذلك منعا للظنون ودفعًا للشبهات.
هذا، وقد أحاط الإسلام عقد الزواج بأوثق الضمانات التي تكفل سعادة الزوجين، وتأتي بالخير لأسرتيهما؛ فجعل الرجال قوامين على النساء بما أعطى كل واحد منهما من الإمكانات والقدرات، فقال تعالى: ﴿ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ﴾ [النساء: 34].
وبهذه القوامة أوجب الإسلام مهرًا على الزوج، وجعله من حق الزوجة، فقال تعالى: ﴿ وَآَتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً ﴾ [النساء: 4]، كما جعل من حقوقها أيضًا النفقة عليها ويقصد به ما تحتاجه المرأة من طعام، وكسوة، وسكن، وعلاج، وغيره، وكذلك معاشرتها بالمعروف؛ لقوله تعالى: ﴿ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 19].
ووصَّى النبي صلى الله عليه وسلم على النساء، فقال: "اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا"؛ (رواه البخاري ومسلم).
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي"؛ (رواه ابن ماجه والترمذي).
وفي حديث عند البخاري أن عائشة رضي الله عنها لَما سُئلت ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع في بيته قالت: "كَانَ يَكُونُ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ - تَعْنِي خِدْمَةَ أَهْلِهِ - فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلاَةُ خَرَجَ إِلَى الصَّلاَةِ"، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التعدي على الزوجة، فقال: "لاَ يَجْلِدُ أَحَدُكُمُ امْرَأَتَهُ جَلْدَ العَبْدِ، ثُمَّ يُجَامِعُهَا فِي آخِرِ اليَوْمِ"؛ (رواه البخاري ومسلم).
وقال صلى الله عليه وسلم: "لَا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ"؛ (رواه الإمام مسلم).
وفي مقابل ذلك جعل الإسلام للزوج على زوجته حقَّ الطاعة، وهو من أهم حقوقه عليها، وهكذا جعل الإسلام لكل من الزوجين حقوقا نحو الآخر، وواجبات يؤديها له، وطالبهما بحسن العشرة والاعتدال في المعاملة، والتعاون في الحياة المشتركة بينهما، ثم رسم الطريق القويم لعلاج ما قد ينشأ بينهما من خلاف ومشكلات؛ قال تعالى: ﴿ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا ﴾ [النساء:39]، وقال تعالى:﴿ وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنفُسُ الشُّحَّ وَإِن تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ﴾ [النساء:128].
وقال تعالى:﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا ﴾ [النساء:35].
ونهى الإسلام المرأة أن تطلب الطلاق أو الخلع من غير سبب شرعي، فقال صلى الله عليه وسلم: "أَيُّمَا امْرَأَةٍ سَأَلَتْ زَوْجَهَا طَلاقًا فِي غَيْرِ مَا بَأْسٍ فَحَرَامٌ عَلَيْهَا رَائِحَةُ الْجَنَّة"؛ (رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي).
وقال صلى الله عليه وسلم: "أَيُّمَا امْرَأَةٍ اِخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجَهَا مِنْ غَيْرِ بَأْسٍ لَمْ تَرِحْ رَائِحَةُ الْجَنَّة"؛ (رواه الترمذي).
وقال صلى الله عليه وسلم: "المُخْتَلِعَاتِ والمنتزعاتِ هُنَّ المُنافِقَاتُ"؛ (رواه الإمام أحمد والنسائي).
وشُرع الطلاق أخيرًا حين تستعصي على الزوجين إقامة حدود الله، والوقوف على ما رسمه الشارع للسير في علاقة الزوجية؛ (انظر حقوق الإنسان في القرآن والسُّنَّة لمحمد بن أحمد بن صالح ص 135 – 138).
يقول الشيخ السعدي - رحمه الله - في كتابه الدرة المختصرة في محاسن الدين الاسلامي ص 15:
"ما شرعه الله ورسوله بين الخلق من الحقوق التي هي صلاح وخير وإحسان وعدل وقسط وترك للظلم، وذلك كالحقوق التي أوجبها وشرعها للوالدين، والأولاد، والأقارب، والجيران، والأصحاب، والمعاملين، ولكل واحد من الزوجين على الآخر.
وكلها حقوق ضروريات وكماليات، تستحسنها الفطر والعقول الزاكية، وتتم بها المخالطة، وتتبادل فيها المصالح والمنافع، بحسب حال صاحب الحق ومرتبته.
وكلما تفكرت فيها رأيت فيها من الخير وزوال الشر، ووجدت فيها من المنافع العامة والخاصة، والألفة وتمام العشرة ما يُشهدك أن هذه الشريعة كفيلة بسعادة الدارين.
وترى فيها هذه الحقوق تجري مع الزمان والمكان والأحوال والعرف، وتراها محصلة للمصالح، حاصلًا فيها التعاون التام على أمور الدين والدنيا، جالبة للخواطر، مزيلة للبغضاء والشحناء".
ثانيًا: بالنسبة للأبناء:
الأبناء هم زهرة الحياة الدنيا وزينتها، وهم بهجة النفوس وقُرَّة الأعين، وقد اعتنى الإسلام بالأبناء عناية خاصة، فقرَّر الإسلام أن لهم على الآباء حقوقًا وعليهم واجبات.
فالابن تتشكل في نفسه أول صور الحياة متأثرًا ببيئة والديه، لِما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "مَا مِن مَوْلُودٍ إلَّا يُولَدُ علَىَ الفِطْرَةِ، فأبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أوْ يُنَصِّرَانِهِ، أوْ يُمَجِّسَانِهِ"؛ (رواه البخاري ومسلم).
فالوالدان لهما أثرٌ كبير في دين وخلق الأبناء؛ لذا فإن صلاح الآباء يتوقف عليه مصلحة الأبناء ومستقبل الأمة، وعليه فإن حقوق الأبناء ترجع إلى ما قبل الولادة؛ حيث اختيار الأم الصالحة والأب الصالح، كما سبق أن بيَّنا.
وإذا ما وُفِّق كل من الزوجين في اختيار صاحبه، يأتي حق الولد عليهما في تحصينه من الشيطان وذلك عند وضع النطفة في الرحم، ويظهر ذلك في التوجيه النبوي الشريف في الدعاء عند الجماع والذي يحفظ الجنين من الشيطان؛ فعن ابن عباس – رضي الله عنهما – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ أَهْلَهُ قَالَ بِاسْمِ اللَّهِ اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ وَجَنِّبْ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا فَإِنَّهُ إِنْ يُقَدَّرْ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ فِي ذَلِكَ لَمْ يَضُرَّهُ شَيْطَانٌ أَبَدًا"؛ (رواه البخاري ومسلم).
وإذا ما صار جنينًا في رحم أمه، فمن حقه الذي أقرَّه الإسلام له حقه في الحياة، وذلك بتحريم إجهاضه وهو جنين؛ حيث تحرم الشريعة الإسلامية على الأم إسقاط الجنين قبل ولادته؛ لأنه أمانة أودعها الله في رحمها، ولهذا الجنين حق في الحياة، فلا يجوز الإضرار به أو إيذاؤه، كما اعتبرته الشريعة نفسًا لا يجوز قتلها متى مضت له أربعة أشهر ونفخت فيه الروح، وأوجبت على قاتله الدِّية، فقد أخرج البخاري ومسلم عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: إن امرأتين كانتا تحت رجل من هذيل، فضربت إحداهما الأخرى بعمود فقتلتها وجنينها، فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رجل من عصبة القاتلة أَنَغْرَمُ دية من لا أكل ولا شرب ولا استهل؟! فقال صلى الله عليه وسلم: "أَسَجْعٌ كَسَجْعِ الْأَعْرَابِ[1]"، فقضى فيه بغرِّة[2] وجعله على عاقلة المرأة".
كما أن الإسلام أجاز الفطر في رمضان للمرأة الحامل حفاظًا على صحة الجنين، كما أجاز تأجيل حد الزنا حتى يُولد وينتهي من الرضاع.
وأمَّا بعد الولادة فقد وضع الإسلام للأبناء أحكامًا تتعلق بولادتهم، منها: استحباب الاستبشار بهم عند ولادتهم؛ وذلك على نحو ما جاء في قوله تعالى في ولادة سيدنا يحيى بن زكريا عليهما السلام: ﴿ فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصلى فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [آل عمران: 39]، وهذه البشارة للذكر والأنثى على السواء من غير تفرقة بينهما.
ومنها أيضًا الأذان في أذنه اليمنى، والإقامة في أذنه اليسرى[3]، وفي هذا اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقد أذَّن النبي صلى الله عليه وسلم في أذن الحسن بن علي - رضي الله عنهما - عند ولادته، فقد أخرج أبو داود من حديث عبيد الله بن أبي رافع عن أبيه، قال: "رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَذَّنَ فِي أُذُنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِي حِينَ وَلَدَتْهُ فَاطِمَةُ بِالصَّلَاةِ"؛ (حسنه الألباني)، ومن حقوق الأبناء كذلك عند ولادتهم استحباب تحنيكهم بتمر[4]، وذلك كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي موسى الأشعري[5] رضي الله عنه قال: "وُلِدَ لي غُلَامٌ فأتَيْتُ به النبيَّ صلى الله عليه وسلم فَسَمَّاهُ إبْرَاهِيمَ وَحَنَّكَهُ بتَمْرَةٍ، ودَعَا له بالبَرَكَةِ، ودَفَعَهُ إلَيَّ"؛ (رواه البخاري ومسلم).
ومنها كذلك حلق شعر رأسهم والتصدق بوزنه فضة، وفي ذلك فوائد صحية واجتماعية؛ فمن الفوائد الصحية: تفتيح مسام الرأس، وإماطة الأذى عنه، وقد يكون ذلك إزالة للشعر الضعيف؛ لينبت مكانه شعر قوي، أما الفائدة الاجتماعية، فتعود إلى التصدق بوزن هذا الشعر فضة، وفي ذلك معنى التكافل الاجتماعي بين أفراد المجتمع، ومما يدخل السرور على الفقراء، وفي ذلك فقد روى محمد بن علي بن الحسين أنه قال: "وزنت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شعر حسن وحسين، فتصدقت بِزِنَتِهِ فضة"؛ (رواه الإمام مالك في الموطأ).
ومن أهم حقوق الأبناء كذلك عند ولادتهم حقهم في التسمية الحسنة؛ فالواجب على الوالدين أن يختارا للمولود اسمًا حسنًا يُنادى به بين الناس، يبعث الراحة في النفس والطمأنينة في القلب، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يكره كلمة حرب ولا يحب أن يسمعها، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: "أَحَبُّ الأَسْمَاءِ إِلَى اللَّهِ عَبْدُ اللَّهِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَأَصْدَقُهَا حَارِثٌ وَهَمَّامٌ، وَأَقْبَحُهَا حَرْبٌ وَمُرَّةُ"؛ (رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي – الصحيحة: 1040).
وعن علي رضي الله عنه قال:لَمَّا وُلِدَ الحسن سميته حَرْبًا، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أَرُونِيِ اِبْنِيِ، ما سَمَّيْتُمُوهُ؟ قال: قلت: حَرْبًا، قال: بَلْ هُوَ حَسَنٌ، فلما وُلِدَ الحسين سميته حَرْبًا، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أَرُونِيِ اِبْنِيِ، ما سَمَّيْتُمُوهُ؟ قال: قلت: حَرْبًا، قال: بَلْ هُوَ حُسَينٌ، فلما وُلِدَ الثالث سميته حَرْبًا، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أَرُونِيِ اِبْنِيِ، ما سَمَّيْتُمُوهُ؟ قلت حَرْبًا، قال: بَلْ هُوَ مُحسِّنٌ، ثم قال: سَمَّيْتُهُمْ بِأَسْمَاءِ وَلَدِ هَارُونَ: شَبَّرٌ، وَشَبِيرٌ، وَمُشَبِّرٌ؛ (رواه الامام مالك وأحمد واللفظ له).
وكذلك من حق الأبناء بعد الولادة العقيقة، ومعناها ذبح الشاة عن المولود يوم السابع من ولادته وحكمها سُنَّةٌ مؤكدة، وهي نوع من الفرح والسرور بهذا المولود، وقد سُئِلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العقيقة، فقال: "لَا أُحِبُّ الْعُقُوقَ، وَمَنْ وُلِدَ لَهُ مَوْلُودٌ فَأَحَبَّ أَنْ يَنْسُكَ عَنْهُ فَلْيَنْسُكْ عَنِ الْغُلَامِ شَاتَانِ مُكَافِئَتَانِ، وَعَنِ الْجَارِيَةِ شَاةٌ"؛ (رواه أبو داود والحاكم) (الصحيحة: 1655).
ومن حقوق الأبناء كذلك بعد الولادة حقهم في الرضاعة، والرضاعة عملية لها أثرها البعيد في التكوين الجسدي والانفعالي والاجتماعي في حياة الإنسان وليدًا ثم طفلًا، وهو ما أدركته الشريعة الإسلامية، فكان على الأم أن ترضع طفلها حولين كاملين، وجعل ذلك حقًّا من حقوق الطفل؛ قال تعالى: ﴿ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ [البقرة: 233].
ولقد أثبتت البحوث الصحية والنفسية الحديثة أن فترة عامين ضرورية لنمو الطفل نموًّا سليمًا من الوجهتين الصحية والنفسية، ونلاحظ مدى اهتمام الشريعة بالرضاعة، وجعلها حقًّا من حقوق الطفل إلا أن ذلك الحق لم يكن مقتصرًا على الأم فقط؛ إذ إنَّ هناك مسؤولية تقع على كاهل الأب، وتتمثل هذه المسؤولية في وجوب إمداد الأم بالغذاء والكساء؛ حتى تتفرغ لرعاية طفلها وتغذيته، وبذلك فكل منهما يؤدي واجبه ضمن الإطار الذي رسمته له الشريعة السمحة، محافظًا على مصلحة الرضيع المسندة إليه رعايته وحمايته، على أن يتم ذلك في حدود طاقتهما وإمكانياتها؛ قال تعالى: ﴿ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا ﴾ [البقرة: 233].
ومن حقوق الأبناء على أبويهم كذلك حقهم في الحضانة والنفقة؛ فقد أوجبت الشريعة على الأبوين رعاية الأبناء والمحافظة على حياتهم وصحتهم والنفقة عليهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ فِي أَهْلِهِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالمَرْأَةُ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا رَاعِيَةٌ وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالخَادِمُ فِي مَالِ سَيِّدِهِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ..."؛ (رواه البخاري ومسلم).
ثم كان حقهم أيضًا في حسن التربية وتعليم الضروريات من أمور الدين، وفي طريقة عملية في تربية الأبناء يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ"؛ (رواه الإمام أحمد وأبو داود والحاكم).
كما أمرنا الله عز وجل أن نحمي أنفسنا وأبناءنا من النار يوم القيامة، فقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ﴾ [التحريم: 6].
هذا بالإضافة إلى رعاية هؤلاء الأبناء وجدانيًّا، وذلك بالإحسان إليهم ورحمتهم، وملاعبتهم وملاطفتهم، وقد ورد في ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم قَبَّل الحسن بن علي وعنده الأقرع بن حابس، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحدًا، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "مَنْ لاَ يَرْحَمُ لاَ يُرْحَمُ"؛ (رواه البخاري ومسلم).
كما روى شداد بن الهاد رضي الله عنه عن أبيه قال:خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في إحدى صلاتي العشاء، وهو حامل حسنًا أو حسينًا، فتقدَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعه، ثم كبَّر للصلاة، فصلى، فسجد بين ظهراني صلاته سجدة أطالها، قال أبي: فرفعت رأسي وإذا الصبي على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ساجد، فرجعت إلى سجودي، فلمَّا قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة قال الناس: يا رسول الله، إنك سجدت بين ظهراني صلاتك سجدة أطلتها حتى ظننا أنه قد حدث أمر، أو أنه يوحى إليك، قال: "كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ. وَلَكِنَّ ابْنِي ارْتَحَلَنِي فَكَرِهْتُ أَنْ أُعَجِّلَهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَه"؛ (رواه الإمام أحمد والنسائي الحاكم).
وروى أيضا أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إِنِّي لَأَدْخُلُ فِي الصَّلاَةِ وَأَنَا أُرِيدُ إِطَالَتَهَا، فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ، فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلاَتِي مِمَّا أَعْلَمُ مِنْ شِدَّةِ وَجْدِ أُمِّهِ مِنْ بُكَائِهِ"؛ (رواه البخاري).
هذا، وإن لحسن تربية البنات ورعايتهن أهمية خاصة؛ حتى إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يُعظِّم من أجر الذي يحسن تربيتهن بصفة خاصة، فقال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ عَالَ جَارِيتَيْنِ حَتَّى تَبْلُغَا جَاءَ يَومَ القِيامَةِ أَنَا وَهُو كَهَاتَيْنِ"؛ وضم أصابعه؛ (رواه الإمام مسلم).
وحذر الإسلام المرء أن يتصدق بكل ماله ويترك أولاده فقراء عالة على الناس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ"؛ (رواه البخاري ومسلم).