هو قالك فين؟
في الساعة السادسة صباحًا، نزل "محمود" من القطار كمن يخرج من سفينة فضاء هبطت على كوكب غير مأهول. كان يحمل حقيبته على ظهره وعيناه تدوران في أرجاء محطة القطار بمحافظة لا يعرف فيها أحدًا، ولا يعرف عنها شيئًا سوى أنها تضم جامعته الجديدة... أو هكذا ظنّ.
استنشق الهواء الثقيل لأول مرة، فشعر أن أوكسجين القاهرة، رغم عوادمه، أكثر نقاء من هذا.
قال لنفسه بثقة مزيفة: — "بس بسيطة... أسأل أول واحد أقابله."
نفخ صدره و نفض التوهان عن وجهه
اقترب من رجل يبيع سندوتشات لا تدري ما بداخلها. سأل بلطف: — "معلش يا حاج... الجامعة فين من هنا؟" نظر إليه الرجل كأنه سُئل عن مكان الكأس المقدسة، ثم قال: "سهلة أوي... تاخد شمال، تلاقي مستشفى، بعدها كوبري حديد، بعدها تسأل على عم عبده اللحّام، هو يدلك."
شكره محمود ومضى...و عند الكوبري الحديد سأل عامل نظافة، فأشار له باتجاه مختلف تمامًا وقال: "تمشي شمالين وتكسر يمين على طول، تلاقي نفسك عند سور الجامعة."
لاحظ التناقض، لكنه قال في سره: "يمكن شمالين + يمين = حاجة صح؟ معقوله ده اختلاف الثقافات؟"
تكررت الأسئلة، وتعددت التوجيهات، وكلها تؤدي إلى طرق مختلفة، ومناطق غريبة، وأسماء لا علاقة لها بأي جامعة على الخريطة.
بدأ التوتر يتسلل إليه مع أشعة الشمس التي راحت تخبط في دماغه كمن يدق مسمارًا. كل من سألهم كانوا يقولون له شيئًا... لكن أحدًا لم يقل له: "معرفش".
بل الأدهى، أن كل من سأله، قال كلمته بثقة من يعرف، ويعرف جيدًا... حتى أن أحدهم قال: "أنا دكتور في الجامعة دي، امشي ورايا." و اخذ يحدثه عن مغامراته في شبابه و كيف اتمرمط قبل ان يكون دكتور, ثم اختفى فجأه في زقاق مظلم!
وبعد ساعتين من التيه والدوار، وجد نفسه في شارع مهجور، كأن الزمن نسيه. البيوت متهدمة، الناس ينظرون إليه كغنيمة. رأى أربعة شبان يجلسون على الرصيف يدخنون شيئًا لا يشبه السجائر، وتلمع في أعينهم شرارة ليست ودية.
وقبل أن يرتعد تمامًا، اقترب منه رجل ضخم البنية، يلبس بنطلون جين مهترئ و تيشرت يبدو انه اشتراه في عرض في عصر الاسره الرابعه الفرعونيه، وله شارب ضخم ملفوف كانه صباع كوسة مستوي زيادة . قال له بصوت جهوري مخيف: "أيوه يا حبيبي... انت بتعمل إيه هنا؟"
بلع محمود ريقه، وحكى القصة كلها... من أول السندوتشات، لحد الدكتور المختفي.
ضحك الرجل، ضحكة صاخبة ترددت في أرجاء الحارة. ثم قال: "طب اسمع... انت عايز كلية ايه في الجامعة؟" رد محمود بحذر: “ كلية تربيه جامعه المنصورة
رد الرجل ببطء، وهو يضع يده على كتفه: "بس إنت دلوقتي في... دمنهور."
سكت الجميع.
سكت الشارع.
وسكت قلب محمود لثانيتين.
قال الزعيم بابتسامة ساخرة: "تعالى يا حبيبي، أنت نزلت المحطة اللي قبلها."
وبينما كان محمود يتمتم بكلمات غير مفهومة و يسأل في براءة طفل ضبط في محل يلتهم ايس كريم فانيليا بدون ان يدفع "دمنهور ميين ؟
، سمع الرجل ينادي على أحدهم: "هاتوا له شاي، شكله حيقع من طوله... وإنت يا حمادة، ودّيه المحطة تاني، الولد ده ضحية الوطن العربي كله... محدش بيعرف يقول ماعرفش."
...
"ولأول مرة في حياته، تمنى محمود أن يجد شخصًا صادقًا... يقول له ببساطة: معرفش."
بقلمي .. أبو محمود