السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأطيب التحايا وأجمل الأمنيات أبعثها إليكم إخوتي الكرام، أعضاء هذا الصرح المبارك، طلابًا ومعلمين، إدارة ومشرفين، متابعين وزوارًا كرامًا، كل باسمه ولقبه ومقامه، أسأل الله أن تكونوا جميعًا بخير وعافية، وأن يجعل كل يوم في حياتكم نورًا وأملًا ومعرفة ونموًا وسلامًا. يشرفني في هذا المقام أن أقدم إليكم نقاشًا هادفًا حول أحد المواضيع النفسية الدقيقة التي تستحق منا التفكر والفهم، خاصة في مرحلة المراهقة والشباب، حيث تتكون شخصياتنا وننضج رويدًا رويدًا لنصبح ما نحن عليه في المستقبل، ألا وهو موضوع "سمات اضطراب الشخصية التجنبية وطريقة تشخيصها واختبارها"
في أعماق النفس البشرية تكمن تجليات عديدة من المشاعر والسلوكيات والتفاعلات الداخلية والخارجية، بعضنا يُولد بطباع هادئة وآخرون يميلون للاندماج والتفاعل، وهناك من يعيشون في عزلة نفسية، لا لأنهم لا يحبون الناس، ولكن لأن خوفهم من الرفض قد يكون أشد من رغبتهم في القرب. وهذا يا إخوتي جوهر ما نناقشه اليوم، اضطراب الشخصية التجنبية، وهو واحد من الاضطرابات النفسية التي لا يُدركها كثير من الناس رغم ما تحمله من معاناة خفية في نفوس المصابين بها. هذا الاضطراب ليس مجرد خجل عابر ولا حياء طبيعي، بل هو نمط دائم من التجنب الاجتماعي والقلق الشديد من النقد أو الرفض أو السخرية، يجعل من يعانيه ينسحب من العلاقات والمواقف حتى لا يشعر بالحرج أو الأذى العاطفي، فيبقى أسيرًا لعزلته، بعيدًا عن التفاعل والتجربة والنمو الاجتماعي الذي يحتاجه الإنسان في كل مراحل حياته
الشخص الذي يعاني من هذا الاضطراب لا يكره الآخرين، ولا يتعالى عليهم، بل هو في الغالب يتمنى التفاعل والمشاركة، لكنه يتردد كثيرًا، ويتردد أكثر، ثم ينسحب قبل أن يتكلم، لأنه يتوقع الرفض، أو يشعر بعدم الكفاءة أو الدونية. تخيلوا معي كيف يعيش الإنسان وهو يعتقد أن كل من حوله يراه ضعيفًا أو غير مناسب أو غير محبوب، فيغلق على نفسه الأبواب، ويخفي طموحاته وأفكاره وكلماته، ويكتفي بالمراقبة من بعيد، حتى وهو في قلب المجتمع
في واقعنا المدرسي اليوم، قد يكون بيننا زميل في الفصل يبدو هادئًا جدًا، لا يتكلم كثيرًا، لا يشارك في الأنشطة، لا يقترب من أحد إلا نادرًا، يهرب من العيون ولا يرفع يده للإجابة رغم أنه قد يكون ذكيًا، موهوبًا، يقرأ كثيرًا ويكتب أجمل المواضيع، لكنه يخاف... يخاف من أن يضحك عليه أحد، أو يرد عليه المعلم بقسوة، أو يخطئ أمام زملائه، فيفضل الصمت. وهذا هو السلوك التجنبي الذي نتحدث عنه، وهو لا يظهر فجأة بل يتكون بالتدريج، نتيجة تجارب نفسية واجتماعية سابقة، ربما منذ الطفولة، مثل التنمر أو النقد الدائم أو الإهانة أو الفشل في العلاقات الاجتماعية، خاصة إذا تكررت وأثرت سلبًا في ثقة الإنسان بنفسه
قد يتساءل أحدنا: هل اضطراب الشخصية التجنبية مرض نفسي؟ في الحقيقة هو ليس مرضًا بالمعنى التقليدي كالاكتئاب أو الفصام، بل هو نمط من أنماط الشخصية التي تكونت بطريقة غير متوازنة، وأثرت على حياة الإنسان وسعادته وعلاقاته ومجتمعه، لذلك يُصنف ضمن اضطرابات الشخصية، وتحديدًا في التصنيف المعروف بـ "المجموعة ج" من اضطرابات الشخصية، والتي تتسم عمومًا بالقلق والخوف، ويشمل أيضًا الشخصية القلقة والوسواسية. لكن ما يميز الشخصية التجنبية عن غيرها هو الانسحاب الاجتماعي الكامل، والحساسية المفرطة للنقد، والشعور الدائم بالدونية
في مثل هذه الحالات، لا يكفي أن نقول للمصاب: "كن قويًا" أو "تحدث بلا خوف" أو "كلنا نخطئ" لأن هذه العبارات رغم حسن نيتها إلا أنها لا تصل إلى عمق المشكلة. المشكلة أعمق من كلمات تحفيزية، بل تتعلق بنمط داخلي من الأفكار والمشاعر والسلوكيات، يحتاج إلى فهم دقيق ومساندة نفسية واحتواء تدريجي، وأحيانًا إلى تدخل علاجي متخصص. المصاب بهذا الاضطراب عادة لا يطلب المساعدة بنفسه، لأنه يخجل أو يخاف من الرفض حتى من المعالج نفسه، لذلك من المهم أن يكون هناك وعي في البيئة المحيطة به، سواء في المنزل أو المدرسة أو بين الأصدقاء، حتى يلقى من يفهمه ويحتويه ويشجعه بلطف وصبر
ومن هنا تأتي أهمية التشخيص. فكيف نشخص اضطراب الشخصية التجنبية؟ يعتمد التشخيص على مقابلات نفسية دقيقة يقوم بها الأطباء أو المختصون النفسيون، حيث تُطرح أسئلة محددة تتعلق بكيفية تفكير الشخص في نفسه، وفي الآخرين، وفي المواقف الاجتماعية. ومن أشهر الأدوات المستخدمة في التشخيص هو "دليل التشخيص الإحصائي للاضطرابات النفسية DSM-5" الذي يشير إلى أن التشخيص يتم إذا توفرت مجموعة معينة من الأعراض، منها: تجنب الأنشطة الاجتماعية أو المهنية خوفًا من النقد أو الرفض، عدم الرغبة في الدخول في علاقات إلا إذا تأكد من القبول الكامل، الحذر الشديد في العلاقات، الخوف المستمر من الخجل أو الإهانة، الشعور بعدم الكفاءة، وعدم الرغبة في المخاطرة أو خوض تجارب جديدة
وقد تُستخدم اختبارات نفسية مقننة مثل "اختبار اضطرابات الشخصية المتعددة MCMI" أو "مقاييس القلق الاجتماعي"، لكنها لا تُغني عن المقابلة السريرية والتحليل الشامل للتاريخ النفسي والاجتماعي للفرد. وهذه الخطوات كلها تحتاج إلى بيئة داعمة، فلا يمكن أن نكشف عن هذه المشكلات في بيئة قاسية أو ساخرة أو مليئة بالتنمر. بل نحتاج إلى ثقافة مدرسية وبيتية تحترم الخصوصية النفسية، وتشجع الطلبة على التعبير دون خوف، وتوفر الدعم النفسي والإرشادي اللازم لمن يحتاجه
ومن المهم أن نميز بين الحياء الطبيعي والخجل العادي، وبين اضطراب الشخصية التجنبية. فليس كل خجول مصاب باضطراب، بل العبرة في مدى تأثير هذا النمط من السلوك على حياة الفرد. فإذا كان الإنسان يملك صداقات ويتفاعل في بيئته بشكل طبيعي ولو بشكل بسيط، فغالبًا لا يعاني من اضطراب، أما إذا كان التجنب مستمرًا، وشاملاً لكل مجالات الحياة، ويصاحبه شعور شديد بعدم الكفاءة أو الخوف من النقد، فهنا يجب الانتباه واللجوء لمساعدة نفسية متخصصة
أما عن أسباب هذا الاضطراب، فهي متعددة، ولا يمكن حصرها في عامل واحد. فهناك عوامل وراثية قد تهيئ الفرد لأن يكون أكثر حساسية من غيره، وهناك عوامل بيئية واجتماعية مثل التربية الصارمة أو التحقير أو الحرمان من الدعم العاطفي، وقد تلعب التجارب السلبية مثل التنمر أو الفشل في العلاقات دورًا حاسمًا في تكوين هذا النمط التجنبي من الشخصية. وكلما كانت هذه التجارب في مرحلة مبكرة من الحياة، كان تأثيرها أعمق وأصعب
لكن الجميل في الأمر أن هذا الاضطراب يمكن التخفيف من حدته بل وعلاجه في كثير من الحالات، خاصة إذا تم اكتشافه مبكرًا وتقديم العلاج المناسب. العلاج النفسي السلوكي المعرفي يُعد من أنجح الأساليب، حيث يُساعد المصاب على التعرف على أفكاره السلبية وتحديها واستبدالها بأفكار أكثر واقعية وإيجابية، كما يُدربه على مهارات التواصل الاجتماعي تدريجيًا، من خلال جلسات علاجية متدرجة، تبدأ بالمواقف الأقل تهديدًا، وتتصاعد شيئًا فشيئًا، حتى يتمكن من التفاعل دون قلق شديد
وفي بعض الحالات، إذا كان الاضطراب مصحوبًا بقلق شديد أو اكتئاب، قد يوصي الطبيب باستخدام بعض الأدوية المهدئة أو المضادة للاكتئاب، لكن العلاج الدوائي لا يُغني عن الجلسات النفسية، لأنه لا يغير نمط الشخصية بل يخفف الأعراض المرافقة فقط. وهنا يظهر دور المجتمع والأسرة والمدرسة، في دعم المصاب، وعدم الضغط عليه أو إجباره على التفاعل بشكل مفاجئ، بل تشجيعه وتشجيع خطواته الصغيرة، ومدحه حين يتقدم، وتجنب السخرية أو المقارنة مع الآخرين
أيها الأحبة الكرام، إن فهمنا لاضطرابات النفس ليس رفاهية معرفية، بل هو ضرورة إنسانية وتربوية، خاصة في مجتمع متسارع مثل مجتمعنا الحديث، حيث ازدادت الضغوط النفسية والاجتماعية، وتنوعت مصادر القلق والاضطراب، ولم يعد من الحكمة أن نتجاهل هذه الأمور أو نُبسطها. بل يجب أن نكون على وعي، وننشر هذا الوعي بين أبنائنا وزملائنا وأهلنا، فكل شخص مختلف في تكوينه النفسي، وما يبدو لك تصرفًا غريبًا، قد يكون في باطنه صراعًا داخليًا عميقًا يعاني منه صاحبه منذ سنوات
دعونا نكون أصدقاء النفس، لا أعداءها، دعونا نبني بيئة مدرسية تشجع كل طالب على التعبير، وتحتوي كل سلوك غريب، وتستوعب كل تجربة نفسية، لأن المدرسة ليست فقط مكانًا لتعلم العلوم، بل هي أيضًا حضن نفسي واجتماعي لصناعة الإنسان الكامل المتوازن. لنعلم أبناءنا أن الخجل ليس عيبًا، وأن الاختلاف في الشخصية ليس ضعفًا، وأن من ينسحب لا يعني أنه فاشل، بل يحتاج إلى دعم، وأننا مسؤولون عن بعضنا في هذا المجتمع، نمد أيدينا لمن يحتاج، ونرتقي جميعًا نحو الصحة النفسية المتكاملة
وفي الختام، أتوجه بالشكر الجزيل لإدارة هذا المنتدى الطيب على إتاحة هذا الفضاء الكريم للنقاش العلمي والإنساني، كما أشكر جميع الإخوة والأخوات على حسن المتابعة، وأدعو كل من يقرأ هذه السطور أن يكون عونًا لكل نفس متألمة، وأن يسعى لنشر الوعي النفسي بين أصدقائه وزملائه، لأن المعرفة نور، والرحمة سلوك، والتكاتف مسؤولية، ولأن كل إنسان يستحق أن يُفهم ويُحترم ويُحتضن
تحياتي / إحساس غالي
#الصحة_النفسية #الشخصية_التجنبية #نقاشات_هادفة #طلاب_الثانوي #اضطرابات_الشخصية #تشخيص_نفسي #خجل_أم_اضطراب #دعم_نفسي #التوازن_النفسي