السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، تحية طيبة عاطرة إلى الإدارة الكريمة، والمشرفين الأفاضل، وإلى جميع الأعضاء الكرام في هذا الصرح المبارك، أما بعد، فإن الحديث الذي نحن بصدده اليوم لا يخلو من وجعٍ يئنّ في الصدور، ولا من حقائق تُساق على بساط الوعي لتوقظ الغافلين، وتعيد ترتيب الأولويات في عقول أنهكها الركض خلف أرقام الحوافز وساعات العمل الإضافي، ذلك الركض الذي يُزين للموظف أنه باب للبركة وزيادة الدخل، بينما هو في حقيقته فخٌّ مموه، وخطر متنكر بثياب المجتهد الحريص، خطر اسمه الأوفر تايم
إنّ مفهوم الوقت الإضافي أو ما يُعرف بـ "الأوفر تايم" قد بات من الظواهر المتجذرة في بيئات العمل الحديثة، لا سيما في المؤسسات التي تسعى لتعظيم الإنتاجية على حساب الإنسان، فتراها ترفع شعار الإنجاز والالتزام، بينما تخفي خلف هذا الستار ضريبة جسدية ونفسية وأسرية يدفعها الموظف وحده، دون أن يشعر أنّه يستهلك عمره مقابل فتاتٍ من المال، وربما إشادة عابرة لا تسمن ولا تغني من تعب
الأوفر تايم ليس مجرد ساعات مضافة إلى الجدول الزمني، بل هو سكين بارد ينحت في الوقت المخصص للأسرة، للراحة، للتنفس، للتأمل، للذات، للعافية، وأحيانًا حتى للنوم، والأدهى أن الموظف الذي يُقبل على هذا النمط من العمل لا يدرك بدايةً أنه قد يربح مالاً ولكنه يخسر شيئًا أكبر لا يُقدّر بثمن، يخسر صحته التي لا تُعوّض، يخسر علاقته بأطفاله الذين يكبرون في غيابه، يخسر مشاعره التي تُهدر في ملفاتٍ لا تنتهي، يخسر ذاته التي تُذيبها آلة الأداء المستمر دون توقف
وما إن يذوق الموظف طعم "الراتب المُعزّز" بالأوفر تايم، حتى تبدأ الدورة المفرغة، إذ يبدأ يُبرمج احتياجاته المالية على هذا المدخول غير المستقر، فيرتفع سقف الإنفاق، وتزيد التزاماته، حتى يصبح غير قادر على العودة إلى جدوله الطبيعي، ويغدو الأوفر تايم حاجة نفسية واجتماعية قبل أن يكون حاجة مادية، وهنا تكون الطامة، لأنه أصبح أسير دوامة لا قرار لها
وقد يخدع الأوفر تايم الموظف بإيهامه أن النجاح مرهون بالتضحية، فيستسلم لفكرة أن من يُنجز أكثر هو الأكثر التزامًا، والأكثر حبًا للعمل، والأكثر حرصًا على مستقبل المؤسسة، وهذه مفارقة مؤلمة، إذ يُحوّل التزام الإنسان إلى سلاحٍ ضده، ويُغذّي ثقافة "الاحتراق الوظيفي" كأنها وسام شرف لا بدّ من تعليقه على صدور الأوفياء، بينما الواقع يشهد أن الموظف المحترق لا يعود نافعًا لنفسه ولا نافعًا لعمله، بل إنه يتحوّل مع الوقت إلى جسدٍ يعمل آليًا، وعقلٍ يتآكل من الداخل، وروحٍ فقدت بهجتها الأولى
إن الأوفر تايم إذًا، ليس بريئًا كما يبدو، بل هو أشبه بذئبٍ يتسلل إلى خيمة الراحة، ينهش من ليالي الهدوء، ويقضم لحظات الصفاء، وينحر فرص الاستجمام التي هي وقود الاستمرارية وشرط الصحة النفسية، فكم من موظفٍ أمضى عقدًا من الزمن في دوامة الساعات الطويلة، وحين أطلّت عليه الثلاثين أو الأربعين من عمره، وجد قلبه يشكو وظهره يؤن وذاكرته تبهت، ثم يقول: "لقد كبرت!"، والحق أنه لم يكبر، بل استُنزف مبكرًا
والمؤسف أن بعض المؤسسات تبني ثقافتها التنظيمية على تمجيد الأوفر تايم، وتمنح المجتهد فيه ترقية أسرع، ومكانة أعلى، وتضعه في صدارة اللوائح، دون أن تلتفت إلى نوعية الأداء، أو الاستدامة النفسية، أو أثر ذلك على المدى الطويل، فهي تنظر للإنجاز اللحظي، ولا ترى الانهيار القادم من بعيد، وهذه سياسة قصيرة النظر، لأنها تستهلك رأس المال البشري ولا تستثمر فيه
ومن جهة أخرى، فإن الموظف نفسه قد يتحوّل إلى مشارك في هذا الخطر، حين يتباهى بعدد الساعات التي قضى فيها في مكتبه بعد انتهاء الدوام الرسمي، وكأنها شهادة على الإخلاص والتفاني، بينما في الحقيقة هي ناقوس خطر يدلّ على خلل في توزيع الجهد، وضعف في إدارة الوقت، وربما على هروب من الحياة الاجتماعية إلى الحياة الوظيفية، وهذا نوع آخر من الانتحار البطيء
ولنكن واقعيين، فليس كل من يعمل أوفر تايم هو طامع في مال زائد، فبعضهم مضطر، وبعضهم مُكرَه، وبعضهم يشعر بالذنب إذا لم يلبِّ النداء، وبعضهم لا يملك خيارًا لأن هيكل العمل في مؤسسته يفرض عليه ذلك، لكن هذا لا يمنع من أن نطرح السؤال الأهم: أين تقف الحدود؟ ومتى يكون الأوفر تايم صحيًا؟ ومتى يتحول إلى خطر خفي؟
الجواب ليس في ساعات العمل، بل في توازن الحياة، فإذا شعر الموظف أن الأوفر تايم لا يسرق من صحته، ولا يبعده عن أسرته، ولا يحجبه عن ذاته، ولا يستنزف أحلامه، ولا يُربكه داخليًا، فقد يكون مؤقتًا مفيدًا، أما إذا شعر بأن كل شيء في حياته يتقلص لحساب الأوفر تايم، فليعلم أنه دخل دائرة الخطر
ولا بد أن نُدرك أن الإدارة الواعية هي تلك التي تحترم وقت موظفيها، لا تلك التي تحتفي بعملهم حتى منتصف الليل، فالمؤسسة التي تنجح في تحقيق أهدافها ضمن ساعات العمل الرسمية هي مؤسسة ناضجة، تعرف كيف تُخطط، وتُوزّع، وتُنجز، وتحترم الإنسان الذي يعمل فيها، أما التي تحتاج دومًا إلى أوفر تايم لتنجز ما هو مطلوب منها، فهي إما تعاني خللاً في الإدارة، أو أنها تبني نجاحها على أنقاض تعب الموظف، وكلا الأمرين مدعاة لإعادة النظر
ولا أقل من أن نطالب بثقافة جديدة تحترم التوازن، تُدرّب الموظفين على إدارة وقتهم، وتُكافئ من يعمل بذكاء لا من يعمل بإفراط، وتعيد تعريف مفاهيم الإنجاز والالتزام والولاء، بعيدًا عن منطق "العطاء اللانهائي"، لأن الإنسان ليس آلة، ومن يرهق نفسه في الثلاثين، قد لا يبقى له الكثير ليُعطيه في الخمسين
ومن جهة الموظف، فلا بد أن يتحلى بالوعي، أن يعرف أن الصحة هي رأس المال، وأن كل ساعة عمل زائدة تُقتطع من مخزون الطاقة الذي لا يُجدد بسهولة، وأن الراحة ليست ترفًا، بل ضرورة، وأن النجاح لا يُقاس بعدد الليالي التي لم ينم فيها، بل بعدد الأيام التي عاشها بكفاءة واستقرار ورضا
فلنحذر إذًا من هذا الخطر المتنكر، خطر الأوفر تايم، الذي يُجمّل نفسه بلغة العطاء والإنجاز، بينما يخفي خلفه آثارًا جسدية ونفسية وذهنية قد لا تظهر اليوم، ولكنها ستفرض نفسها يومًا ما، حين يكتشف الموظف أنه دفع من عمره ما لا يمكن استعادته، ومن صحته ما لا يمكن تعويضه، ومن علاقاته ما لا يمكن إصلاحه
وختامًا، أقولها بصدق وإشفاق، لا تدفع نفسك إلى الحافة باسم الالتزام، لا تُنهك بدنك باسم الوفاء، لا تفرّط في حياتك اليومية مقابل مجدٍ وظيفي مؤقت، فالعمل جزء من الحياة وليس الحياة كلّها، والنجاح الحقيقي هو أن تُنجز دون أن تُستنزف، أن تُعطي دون أن تُفنى، أن تُضيء دون أن تحترق، وأن تُحب عملك دون أن تُفقدك محبته لذاتك
والله أسأل أن يحفظ لكل موظف وقته وجهده وصحته وأسرته، وأن يرزقنا جميعًا توازنًا بين العمل والحياة، لا نُفرّط فيه ولا نُقصّر، وأن يجعل أعمالنا كلها في ميزان الخير، لا في ميزان الإنهاك، وأن يُلهم المسؤولين والإدارات أن يروا الإنسان قبل الأرقام، والنفوس قبل التقارير، والأرواح قبل ساعات الإنجاز
تحياتي / إحساس غالي
#العمل_الصحي #التوازن_الوظيفي #إدارة_الوقت #راحة_الموظف
#الأوفر_تايم #الاحتراق_الوظيفي #ثقافة_الدوام
#حقوق_الموظف #الحياة_أولا