من الجذب إلى التمكين: كيف توفّر المؤسسات بيئة جاذبة للكفاءات النادرة؟
في ظل التغيرات المتسارعة التي يشهدها سوق العمل العالمي، لم تعد المؤسسات تكتفي بمجرد البحث عن الموظف المناسب، بل أصبحت تتنافس على اجتذاب الكفاءات النادرة والاحتفاظ بها وتمكينها من النمو والابتكار داخل بيئة عمل محفزة ومستدامة. ومع ازدياد الحاجة إلى أصحاب المهارات الفريدة والخبرات العالية، أضحى من الضروري أن تتحول بيئة العمل إلى منظومة حيوية متكاملة، تهتم بالموظف كإنسان قبل أن تراه كأداة إنتاج. في هذا المقال سنتناول بأسلوب مبسط وميسر كيف يمكن للمؤسسات أن تنتقل من مجرد الجذب إلى التمكين، وأن تخلق بيئة عمل جذابة، حاضنة للموهبة، ومحفزة للإبداع
أولًا: فهم الكفاءات النادرة وأهميتها في بيئة العمل
الكفاءات النادرة هي تلك الفئة من الموظفين الذين يمتلكون مزيجًا من المهارات المتقدمة والخبرات التخصصية والصفات القيادية التي يصعب إيجادها أو استبدالها بسهولة. هؤلاء الأفراد لا يُقدّمون للمؤسسة مجرد خدمات تقليدية، بل يسهمون في ابتكار الحلول، وتحقيق النمو، والتفاعل مع التحديات الاستراتيجية بطريقة نوعية ومتفردة. لذلك فإن نجاح أي مؤسسة اليوم بات مرتبطًا إلى حد كبير بقدرتها على جذب هذه الكفاءات والاحتفاظ بها في بيئة عمل محفزة وممكنة
ثانيًا: عوامل الجذب الأساسية للكفاءات
لعل أول خطوة نحو التمكين تبدأ من توفير مناخ عمل جاذب للكفاءات المميزة، ومن أبرز عناصر هذا الجذب: تقديم رواتب تنافسية تتناسب مع مؤهلات الموظف وخبراته الفريدة وتوفير حوافز مالية ومعنوية تحفز الإنجاز وتحترم التميز الشخصي وتقديم فرص للنمو والتطوير المهني بما يضمن استمرار التعلم وتوسيع آفاق الموظف توفّر بيئة تنظيمية مرنة تحترم التوازن بين الحياة المهنية والشخصية بناء ثقافة مؤسسية قائمة على التقدير والثقة والانفتاح وحرية التعبير توفير بيئة تكنولوجية متقدمة تسهّل العمل وتعزز الإنتاجية هذه العناصر لا تجذب الكفاءات فحسب، بل تزرع فيهم الرغبة في البقاء والمساهمة الفاعلة
ثالثًا: التمكين كاستراتيجية لتحفيز الإبداع والالتزام
التمكين لا يعني فقط منح الموظف صلاحيات أوسع، بل هو فلسفة إدارية تنطلق من إيمان المؤسسة بأن الإنسان هو المصدر الحقيقي للقيمة والتميز. فعندما يشعر الموظف بأنه موثوق ومقدر ومشارك في صنع القرار، فإنه يصبح أكثر التزامًا بالرسالة المؤسسية وأكثر حماسًا للإبداع. من وسائل التمكين الناجحة: إشراك الموظفين في اتخاذ القرارات التي تمس طبيعة عملهم وتزويدهم بالموارد والمعلومات الكافية لإنجاز المهام المطلوبة تدريبهم بشكل مستمر على المهارات المستقبلية والسلوكيات القيادية دعم المبادرات الفردية والابتكارات وتشجيع التفكير النقدي والاقتراحي تعزيز ثقافة المساءلة الإيجابية بدلاً من العقوبة الرقابية تمكين الموظف لا يقتصر على القسم الإداري فقط، بل هو مسؤولية جماعية تبدأ من رأس الهرم الإداري وتنتهي بكل موظف داخل المؤسسة
رابعًا: بيئة العمل المرنة والتشاركية
من أهم السمات التي تميز بيئات العمل الجاذبة للكفاءات النادرة هي المرونة. إذ إن الموظف الموهوب بحاجة إلى حرية في تنظيم يومه واختيار طريقة الإنجاز التي تناسبه. المرونة تشمل جوانب متعددة مثل: خيارات العمل عن بعد أو العمل الهجين عدم التقييد الصارم بساعات العمل التقليدية احترام الأسلوب الشخصي في الإنجاز طالما أن النتيجة مطلوبة إتاحة الفرصة للتفاعل الأفقي بين الفرق دون بيروقراطية المشاركة التفاعلية تخلق شعورًا بالانتماء وتؤسس لعلاقات مهنية صحية، كما تُقلل من التوتر وتزيد من الولاء المؤسسي
خامسًا: التقدير والتكريم كأدوات جاذبة للكفاءات
في كثير من الأحيان يكون التقدير المعنوي أقوى من أي مكافأة مادية. الكفاءات المتميزة تبحث عن التقدير الحقيقي الذي يُظهر أثرها ويمتن دورها. لذا فإن من أسس الجذب والتمكين: الاعتراف بالإنجازات الصغيرة قبل الكبيرة الاحتفاء بالنجاحات بشكل علني وتحفيزي إقامة جوائز للتميز ومبادرات تحفيزية للمجتهدين بناء سجل متميز للموظف يُظهر تطوره المهني داخل المؤسسة رفع اسم الموظف الناجح في المحافل الداخلية والخارجية يعزز الشعور بالقيمة، ويبعث رسالة بأن المؤسسة تهتم بك وتفخر بكفاءتك
سادسًا: خلق بيئة نفسية آمنة
قد يكون العامل النفسي هو الفاصل الأهم بين بقاء الكفاءات أو رحيلها. الكفاءة النادرة لا تستطيع أن تزدهر في بيئة سامة مليئة بالخوف والتسلط والمقارنات. ولذلك، لا بد أن تسعى المؤسسة إلى: الحد من التسلط الإداري وتشجيع أسلوب القيادة التحفيزية إرساء قواعد الاحترام والتسامح والتعاون داخل الفرق معالجة النزاعات بروح عادلة ودون تحيّز تدريب القادة على الذكاء العاطفي والتواصل الإنساني الشفاف ضمان سرية الشكاوى وتمكين الموظفين من التعبير عن آرائهم دون خوف بيئة آمنة نفسيًا تُنتج موظفًا مرتاحًا، متزنًا، وقادرًا على تقديم أفضل ما عنده
سابعًا: أهمية القيم والهوية المؤسسية في الجذب
الكفاءات اليوم لا تبحث فقط عن وظيفة، بل عن رسالة وقيم وهوية تتوافق مع قناعاتها. ولذلك فإن المؤسسات الجاذبة للكفاءات النادرة هي تلك التي: توضح رؤيتها ورسالتها بشكل شفاف وتترجمها إلى سلوك يومي تعكس التزامها الاجتماعي والبيئي بوضوح تؤسس لثقافة قائمة على العدالة والتنوع والمساواة تمنح الموظف فرصة ليشعر أنه جزء من رسالة أسمى وليس مجرد ترس في آلة إنتاجية التماثل القيمي بين الموظف والمؤسسة يخلق شعورًا بالانتماء ويجعل من البيئة المهنية امتدادًا طبيعيًا للحياة الشخصية للموظف
ثامنًا: الاستماع الفعال وتغذية راجعة بنّاءة
أحد أبرز أدوات التمكين هو أن يشعر الموظف بأن صوته مسموع وأن رأيه يؤثر. ولهذا فإن المؤسسات الناجحة تعتمد سياسة الاستماع الفعال من خلال: عقد جلسات دورية للتغذية الراجعة الثنائية أو الجماعية تخصيص قنوات تواصل مفتوحة وآمنة للأفكار والملاحظات دعم مبادرات التحسين المستمرة المبنية على اقتراحات الموظفين استخدام الاستطلاعات النفسية والمهنية لقياس رضا الموظفين الاستماع الحقيقي يولد الثقة، ويحول الكفاءة من مراقب خارجي إلى مشارك أصيل في صناعة القرار
تاسعًا: الاستثمار في التكنولوجيا وتسهيل بيئة العمل
توفّر بيئة العمل الجاذبة لا يمكن فصلها عن التحول الرقمي والتكنولوجي الذي يُسهّل حياة الموظف. الكفاءات النادرة تبحث عن مؤسسة تُمكّنها بالتكنولوجيا لا أن تُرهقها بالإجراءات. ومن وسائل الدعم التكنولوجي: أتمتة الإجراءات الروتينية وتقليل البيروقراطية توفير أدوات رقمية متطورة لإنجاز المهام التعاون الافتراضي السلس بين الفرق المتباعدة أدوات تحليلات البيانات لاتخاذ قرارات مبنية على معرفة توظيف الذكاء الاصطناعي لدعم الموظف لا لاستبداله التكنولوجيا الذكية ترفع من كفاءة الكفاءات وتزيد من إنتاجيتهم وتقلل من الاحتكاك الإداري المرهق
عاشرًا: المسار المهني الواضح وفرص القيادة
لا يمكن للكفاءة أن تبقى في بيئة لا ترى فيها مستقبلًا واضحًا. لذلك من واجب المؤسسات أن تصمّم مسارات مهنية محفّزة للكفاءات النادرة، تتضمن: خططًا واضحة للترقية والتطوير التدريجي برامج إعداد قيادات المستقبل من داخل المؤسسة دورات تخصصية لتأهيل الكفاءات لمواقع أكثر مسؤولية مشاركة الكفاءات في بناء استراتيجيات المؤسسة وتوسيع صلاحياتهم شعور الموظف بأن لديه طريقًا نحو التأثير القيادي يولد التزامًا داخليًا يدفعه للعطاء المستمر
الخلاصة
الجذب والتمكين ليسا مرحلتين منفصلتين، بل هما جناحان متلازمان ترتكز عليهما أي مؤسسة تطمح للتميز والتنافس في سوق مليء بالتحديات. فإذا كان الجذب هو وعد المؤسسة بالاهتمام، فإن التمكين هو إثبات هذا الوعد بالأفعال. المؤسسة التي تفهم طبيعة الكفاءات النادرة، وتبني لهم بيئة عمل تحترم طموحاتهم وتقدّر إنسانيتهم، هي المؤسسة التي تبقى، وتزدهر، وتصبح حلم كل كفاءة تتطلع للعمل والإبداع. لذلك فإن بناء بيئة جاذبة لا يحتاج فقط إلى موارد مالية، بل إلى رؤية استراتيجية، وثقافة إدارية، وصدق في الالتزام بالقيم
المصادر:
- Harvard Business Review – Talent Management Strategies
- Forbes – How To Attract And Retain Top Talent In 2025
- Gallup – State of the Global Workplace
- Deloitte Insights – Human Capital Trends
- McKinsey & Company – The Great Attrition is Making Hiring Harder. Are You Ready?
#إدارة_الموارد_البشرية #الجذب_الوظيفي #التمكين_المهني #القيادة_التحفيزية
#ثقافة_العمل #البيئة_النفسية #الموظف_السعيد
#الكفاءات_النادرة #التمكين_الوظيفي
