السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وتحية طيبة عاطرة للإدارة الكريمة، والمشرفين الأفاضل، وللأعضاء الأعزاء روّاد هذا الصرح الرفيع، منتديات ستار تايمز
أقف اليوم بين أيديكم لأناقش قضية من القضايا المؤرقة في ساحة الموارد البشرية والإدارة، قضية تتكرر في كل مؤسسة، وتُعيد طرح السؤال ذاته مع كل استقالة مؤلمة: لماذا يرحل الموظفون الأكفاء؟ ولماذا تخسر المؤسسات أعمدتها الصلبة وأصواتها الفاعلة، بالرغم من تألق أدائهم وروعة عطائهم؟ إن هذه المعضلة التي نعاني منها لا تتعلّق بمجرد مغادرة كرسي شاغر، بل بخسارة عقل ومهارة وخبرة وولاء كان يمكن أن تُبنى عليه استراتيجيات نجاح طويلة الأمد. فالموظف الكفء ليس مجرد رقم وظيفي، بل هو استثمار طويل في التعلم والإنتاج والولاء.
وحين نتحدث عن “الاستقالة”، فنحن لا نقصد قرارًا عابرًا، بل نهاية قصة بدأت بتوقيع عقد وانتهت بتوقيع ورقة استقالة. قصة كانت يمكن أن تُكتب بمداد النجاح، لكنها تُطوى غالبًا بالحسرة والتساؤل عن الأسباب. وما أكثرها! لكن المؤسف أن أغلبها ليست حتمية، بل يمكن تفاديها لو أن الإدارات أنصتت بصدق، وراقبت ما بين السطور، وفهمت ما يسكن خلف وجوه الموظفين لا ما يُكتب في تقارير الأداء فقط.
من خلال تأمل طويل في تجارب عديدة وسير ذاتية لأشخاص أكفاء غادروا مواقعهم، ومن خلال تتبّع التحليلات الإدارية الحديثة، يمكننا تلخيص التسعة أسباب الأكثر قسوة التي تدفع الأوفياء إلى الرحيل، لا لأنهم أرادوا الهرب، بل لأن بيئة العمل دفعتهم دفعًا إلى الاستقالة.
أول هذه الأسباب وأكثرها شيوعًا هو سوء الإدارة. نعم، مدير سيئ كفيل بتدمير مؤسسة بأكملها، فكيف بموظف؟ الإدارة السيئة ليست فقط في الأوامر القاسية أو القرارات غير العادلة، بل في الغطرسة، في تجاهل صوت الموظف، في تقزيم جهده، في سرقة أفكاره ونسبها لغيره، في التشكيك بقدراته، في تحويل بيئة العمل من ساحة للإبداع إلى ميدان للخضوع والخوف. المدير الذي لا يفهم أن سلطته تكمن في تمكين موظفيه لا في إذلالهم، هو أول من يكتب شهادة استقالة لأكثر موظفيه كفاءة.
والسبب الثاني، غياب التقدير. الموظف الكفء لا يعمل فقط من أجل الراتب، بل من أجل الشعور بالجدوى، بالحضور، بالفرق الذي يصنعه. وعندما يقدّم أفضل ما عنده ويقابل ذلك بصمت بارد، أو مقارنات مجحفة، أو حتى تهميش، فإنه يُهزم نفسيًا ويبدأ في البحث عن مكان يقدّره بصدق، لا على الورق بل على أرض الواقع.
أما ثالث الأسباب، فهو انعدام فرص التطور. الموظف الكفء لا يرضى أن يراوح مكانه، بل يتوق للنمو، للتعلم، للتحدي، لا يحب الوظائف الميتة ولا المسارات المغلقة. وعندما يكتشف أن مؤسسته لا توفر له سوى التكرار والجمود، يختار المغادرة قبل أن تذبل طموحاته، لأنه يرى مستقبله أكبر من سقف المؤسسة المحدود.
رابع الأسباب يتمثل في بيئة العمل السامة. بيئة مليئة بالنميمة، بالصراعات الصغيرة، بعدم الثقة، بعدم الأمان النفسي، بيئة يُكافأ فيها المتملق، ويُقصى فيها المبدع الصامت، بيئة تضجّ بالمظاهر وتفتقر إلى العمق. الموظف الكفء لا يملك مناعته ضد هذه السموم طويلًا، وحين يجد أنه أصبح مستنزفًا نفسيًا، ينسحب بهدوء.
أما السبب الخامس، فهو ضعف العدالة الوظيفية. أن يرى الموظف زملاء أقل كفاءة يحصلون على ترقّيات لمجرد صلة أو مجاملة، أو أن تُوزّع الحوافز بلا مبرر موضوعي، أو أن يتلقى تقييمًا وظيفيًا متدنيًا دون توضيح أو فرصة للرد، فإن كل هذا يولّد داخله شعورًا مريرًا بالغبن. وحين تتكرر هذه المواقف، فإن أرقى القيم المهنية تنهار أمام سطوة المحاباة، ويفقد الموظف ثقته بالمؤسسة.
السبب السادس هو التوازن المفقود بين الحياة والعمل. الموظف الكفء غالبًا ما يُستغل، لأنه يُنجز فيُحمَّل فوق طاقته، لأنه لا يشتكي فيُرهق، لأنه حاضر دائمًا فيُتوقع منه أن يكون آلة لا تعرف الراحة. ومع تراكم الإرهاق، يكتشف فجأة أنه يخسر صحته، أسرته، ذاته، لأجل مؤسسة لا تلتفت لمعاناته. وهنا تكون الاستقالة شكلًا من أشكال استعادة الكرامة.
والسبب السابع، غياب الرؤية المستقبلية. الموظف الذكي يحتاج أن يرى الطريق أمامه، أن يعرف لماذا يعمل، ما هي استراتيجية المؤسسة، أين تتجه، وما هو موقعه في هذه الرحلة. وحين لا يجد غير الغموض، أو التناقض بين الشعارات والواقع، يبدأ بالشعور أن ما يفعله لا معنى له، وأن المؤسسة تفتقر إلى البوصلة.
والسبب الثامن، هو فشل المؤسسة في الاستماع. الموظف الكفء يحمل أفكارًا وملاحظات وشغفًا بالتغيير، لكن عندما يُقابل صوته بالتجاهل، أو يُختزل إلى رقم في اجتماع شكلي، أو يُمنع من التعبير عن مشاكله بحرية، يشعر باللاجدوى. ومع الوقت، يُغلق قلبه، ويغلق باب المكتب من بعده للأبد.
وأخيرًا، السبب التاسع، هو عدم الاتساق بين القيم الشخصية والمؤسسية. الموظف الذي يحمل مبادئ قوية ويصطدم بثقافة تتنافى مع قناعاته، سواء في ما يتعلق بالأمانة أو الاحترام أو النزاهة أو حتى طريقة التواصل، سيشعر بالغربة. ولا يمكن للمرء أن يبدع في مكان يشعر فيه أنه مضطر للتنازل عن جوهره.
كل هذه الأسباب – على اختلافها – تلتقي في نقطة واحدة: أن الموظف الكفء لا يرحل لأنه ضعيف، بل لأنه قوي بما يكفي ليرفض البقاء في بيئة لا تليق به. الاستقالة ليست هروبًا، بل موقف، صرخة صامتة تقول: “لقد حاولت، ولكنكم لم تستمعوا”. ومن هنا تأتي مسؤولية المؤسسات، لا فقط في استقطاب الكفاءات، بل في الحفاظ عليها، في الإنصات لصوتها، في صون كرامتها، في مكافأتها بصدق، لا بشهادات جوفاء.
ما أكثر المواهب التي نزفت من المؤسسات كما تنزف الدماء من الجروح! وما أكثر الذين استقالوا بأجسادهم بعد أن سبقتهم أرواحهم سنوات! كم من شخص جلس يومًا على مكتبه، وأخفى دمعته خلف شاشة الحاسوب، ليس لضعف، بل لحزن دفين على تجاهل! وكم من إدارة استيقظت متأخرة، بعدما فرغ المكان ممن يستحقون البقاء!
علينا أن ندرك أن الموظف الكفء ليس هو من لا يستقيل، بل هو من يصبر طويلًا قبل أن يكتب قراره الأخير، الذي إن كُتب فلا تراجع فيه. هو من يعطي فرصًا، يقدّم أعذارًا، يسامح الزلات، ينتظر التغيير، حتى إذا لم يحدث، غادر بصمت، وترك خلفه فراغًا لا يُملأ.
وفي ختام هذه السطور، أبعث رسالتي لكل مدير، ولكل قائد فريق، ولكل صاحب قرار في أي مؤسسة: لا تنتظر أن يصلك خطاب استقالة لتبدأ في التحليل، بل ابدأ الآن في الاستماع، في تحسين بيئة العمل، في الاعتراف بفضل المبدعين، في ترسيخ العدالة، في بناء ثقافة تحمي الموظف قبل أن تُطالبه بالعطاء. فالأوفياء لا يطلبون الكثير، فقط الاحترام، التقدير، والفرصة.
وأما للموظفين الأكفاء الذين يحملون الحيرة في قلوبهم، ويعيشون بين نار الشغف ونار الإهمال، فاعلموا أن القيمة لا تُمنح لكم من مؤسسة، بل تنبع من داخلكم. وإن كان لا بد من الرحيل، فليكن بشرف، وبهدوء، ولتبقوا أمناء لأنفسكم أولًا، وللحق الذي بداخلكم.
تحياتي / إحساس غالي