السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأطيب التحايا لكم أيها الأعضاء الكرام، روّاد هذا الصرح المميز، ومتابعيه الأوفياء، والمشاركين فيه بعقولهم النيّرة وأقلامهم الراقية، يسعدني أن أشارككم في هذا النقاش الحيوي الذي يُلامس نبض المؤسسات ويكشف أحد أعقد التحديات التي تواجهها اليوم، ألا وهو: أسباب ترك الموظفين الماهرين لأعمالهم، وهي مسألة تتعدى كونها مجرّد إحصائية في تقارير الموارد البشرية، لتغدو ظاهرة تهدد الاستقرار المؤسسي وتستنزف الطاقات وتفتح بوابات التساؤل والدهشة في آنٍ واحد: لماذا يغادر الأكفاء في عزّ عطائهم؟ ما الذي يجعل موظفًا متميزًا يطوي صفحة النجاح مع مؤسسةٍ كانت بالأمس بيته المهني؟ وما الذي قد يدفع العقول اللامعة إلى الرحيل بصمت دون ضجيج، كأنّهم ما كانوا يومًا عماد النجاح وبُناة القمم؟
إن الحديث عن هذا الموضوع ليس مجرد اجترار لعبارات التأسّف على خسارة الكفاءات، بل هو تشريح دقيق لأعماق المنظومات الإدارية والنفسية والتنظيمية التي تدير علاقة الموظف بمكان عمله، ولأنّ كل مغادرة طوعية لموهبة بشرية تحمل في طيّاتها قصة ما، فإن قراءة تلك القصص تحتاج لعين تحليلية لا ترضى بالتعميم ولا تخضع للتبرير، بل تغوص في الأسباب كما يغوص الغوّاص في الأعماق بحثًا عن اللؤلؤ.
فالسبب الأول الذي يدفع كثيرًا من الموظفين الموهوبين إلى اتخاذ قرار المغادرة طواعية هو غياب التقدير، لا سيّما التقدير غير المالي. فالموظف الماهر لا يبحث فقط عن راتب محترم، بل عن قيمة معنوية يشعر بها، وعن اعتراف صادق بجهده، وعن كلمة "شكرًا" تُقال له في الوقت المناسب. وحين يصبح عمله اليومي أمرًا مُسلّمًا به لا يُذكر، ولا يُقدَّر، ولا يُحتفى به، فإن العلاقة العاطفية بينه وبين المؤسسة تبدأ بالتآكل، وقد يقرر في لحظة وعي مرير أن يرحل دون أن يلتفت خلفه.
وثاني الأسباب هو القيادة السيئة، أو بتعبير أدق "الإدارة القاتلة للمواهب"، فكم من مدير لا يرى في الموظف سوى رقم وظيفي أو أداة تنفيذ، فيحطم روحه شيئًا فشيئًا، يراقبه ليُخطئ، لا ليتعلّم، ويحاسبه على كل تفصيل صغير دون أن يمنحه رؤية أو دعمًا أو أفقًا. هذا النمط من الإدارة يقتل الشغف، ويجعل الموظف يشعر وكأنه يُساق إلى مجهول لا يعرف كيف سيخرج منه، فيبدأ بالبحث عن مكانٍ يُنصت له فيه، ويثق به، ويقوده لا يُراقبه.
كما أنّ انعدام النمو الوظيفي يُشكّل رافدًا خطيرًا لمغادرة الكفاءات. فحين يشعر الموظف الموهوب أنّ سقف التطور لديه قد أُغلق، وأن سنواته القادمة ستكون نسخًا مكرّرة من يومه الحالي، فإن طموحه يتمرّد عليه ويصرخ: "ارحل!"، لأن الموهبة الحقيقية لا تقبل أن تُحبس في قفص الرتابة، ولا أن تُطفأ في ظلال الجمود، بل تحتاج بيئة ديناميكية تُغذي طموحها وتصعد بها درجة تلو درجة.
وفي كثير من الأحيان، تنشأ أزمة صامتة بين الموظف الماهر والمكان الذي يعمل فيه حين يُفتقد الانسجام بين القيم الشخصية وقيم المؤسسة. فالمبدع لا يمكنه الاستمرار طويلًا في بيئة تفتقر للنزاهة، أو تتبنى ممارسات تفتقد للعدل والشفافية، أو تُكافئ التملق وتُهمل الأداء الحقيقي. فيبدأ هذا الموظف بالشعور بالاختناق الداخلي، ويبدأ بينه وبين ذاته صراع "الجدوى"، حتى يُقرر الانسحاب إنقاذًا لما تبقى من نزاهته وكرامته المهنية.
ومن الأسباب كذلك غموض الأدوار وعدم وضوح الأهداف. فالموظف الماهر يريد أن يعرف بوضوح ما هو مطلوب منه، وما النتائج المرجوة، وما المسار الذي يجب أن يسلكه، وحين تضيع البوصلة في ظلّ إدارة لا تملك رؤية أو لا تُشارك رؤيتها مع فريقها، فإن الموظف يشعر بأنه تائه في صحراء العمل، يتقدم خطوة ويتراجع أخرى، يبدع لكن دون إطار واضح يقيس فيه إنجازه، فتذبل روحه ويُسلم بالرحيل.
ولا يمكن في هذا المقام تجاهل ثقافة العمل السامة، حيث تتغلغل في بعض البيئات الوظيفية مشاعر الحسد، أو النزاعات الداخلية، أو الكيد الوظيفي، أو الغيبة والتهميش، وهي سموم لا يقدر عليها الأذكياء، لأنهم أكثر حساسية تجاه الظلم والضغينة، وأكثر رغبة في بيئة صحية تحتضن التعاون لا التصادم. الموظف الماهر لا يبقى طويلًا في مكانٍ يُحارب فيه زملاؤه طموحه، أو يتربصون بإبداعه، أو يحاولون تقزيمه خوفًا من تميّزه.
كما أن تآكل الثقة بين الموظف وإدارته سبب جوهري لمغادرة الصفوف. فالثقة هي العقد النفسي غير المكتوب بين الطرفين، وإذا ما اختلت، ضاع الأمن الوظيفي، وبدأ الشك يتسلل إلى قلب الموظف، فيشك في نوايا المؤسسة، ويخشى التقييمات، ويشعر أنّ مستقبله ليس في أيدٍ أمينة، وهنا لا يعود للولاء مكان، بل يبدأ الحنين إلى البديل الآمن، ولو لم يكن مثاليًا.
وفي بعض الأحيان، تكون بيئة العمل بحد ذاتها خانقة من حيث ساعات العمل المفرطة، أو الإجهاد المزمن، أو عدم احترام التوازن بين الحياة الشخصية والمهنية، وهذه الأمور رغم أنها تبدو تفصيلية إلا أنها تنمو ببطء وتتحول إلى كتل من الإنهاك النفسي والبدني، تجعل الموظف يفقد شغفه، ثم تركيزه، ثم قراره بالبقاء، خاصة إن لم يجد دعمًا أو تفهمًا من الإدارة.
أمّا المفارقة العجيبة، فهي أن بعض المؤسسات لا تُدرك أنّها تُفقد أفضل كوادرها لأنها ببساطة تُكافئ mediocrity أكثر مما تُكرم excellence، أي تُكافئ العادي على انضباطه الظاهري وتُهمش المتفوّق إذا ما كسر النمط وابتكر. فتُقتل روح المبادرة، ويُخنق التجديد، ويشعر الموهوب أن تميّزه أصبح عبئًا عليه، لا ميزة له.
وهناك أيضًا قرارات استراتيجية خاطئة أو تغييرات هيكلية متكررة تُحدث حالة من عدم الاستقرار، وتضعف انتماء الموظف. فإذا ما شعر أن المؤسسة تسير بلا بوصلة، أو أن كل مرة يُغيّر فيها المدير أو الفريق يُعاد تشكيل الأدوار دون منطق، فإنه يفقد ثقته في الطريق ويبدأ بالبحث عن مؤسسة تعرف ماذا تريد وإلى أين تسير.
ومن المؤسف أنّ بعض الإدارات لا تستثمر الوقت في جلسات التغذية الراجعة، أو في استطلاع رضا الموظف، ولا تسألهم ببساطة: "كيف تشعر؟"، "هل هناك ما يمكن تحسينه؟"، "ما الذي تحتاجه لتُبدع أكثر؟"، فتبدو المؤسسة في نظر الموظف كيانًا صامتًا لا يسمع، ولا يُصغي، ولا يهتم، وهذا الجفاء المهني كفيلٌ بهدم أعتى الحماس.
ومن الأسباب ذات الطابع الخفيّ كذلك شعور الموظف بعدم الانتماء، حيث لا يرى نفسه جزءًا من الصورة الكبرى، ولا يشعر أن أفكاره مسموعة، أو أن لوجوده أثرًا حقيقيًا. فالإنسان، وإن بدا عقلانيًا، إلا أنّه يحتاج إلى الشعور بالانتماء ليبقى، يحتاج إلى أن يكون صوته مسموعًا، وأثره مرئيًا، ومكانته محترمة. فإذا غابت هذه العناصر، رحل بجسده بعد أن رحل وجدانه.
وفي النهاية، لا يترك الموظف الماهر عمله فجأة، بل هو نتيجة تراكم مشاعر كثيرة لم تجد من يحتويها. قد يُنذر صامتًا، وقد يُلوّح ببعض الإشارات، لكنه في النهاية، حين يقرر، فإنه يقرر دون عودة، لأن شعوره بالخذلان، أو الانطفاء، أو التجاهل، أقوى من أي عرض لاحق بالبقاء.
فالمؤسسات الذكية لا تنتظر خطاب الاستقالة لتتحرك، بل ترصد المؤشرات المبكرة وتبني ثقافة تحتضن المبدعين وتحميهم من الإنهاك والتهميش، وتُشعرهم أنهم ليسوا مجرّد تروس في آلة ضخمة، بل أبطالٌ حقيقيون في رواية الإنجاز. إنّ الحفاظ على الكفاءات لا يكون بإغرائها بالمال فقط، بل ببناء بيئة عمل تليق بموهبتهم، تكرّم أفكارهم، وتُصغي لهم، وتمنحهم ما يكفي من الثقة ليتنفسوا الإبداع، لا أن يختنقوا بروتين قاتل.
والسؤال الذي يبقى معلقًا في الهواء: متى نُدرك كقيادات ومؤسسات أنّ الاستثمار الحقيقي ليس في المباني، ولا في الأنظمة، بل في الإنسان؟ ومتى نعيد تعريف "النجاح المؤسسي" لنضع ضمن معاييره: الحفاظ على الموهبة، لا فقدانها؟ ومتى نتعلّم أن نقول للموظف الماهر قبل أن يرحل: "أنت هنا لأنك تصنع فرقًا، ونحن نراك"؟
لكم مني خالص الشكر على وقتكم وقراءتكم، وكل الاحترام لهذا المنتدى الراقي، ولمديريه ومشرفيه وأعضائه الذين لا تزال أقلامهم تُعلي من قيمة الكلمة وتحفرها في ذاكرة الفكر العربي. وإلى اللقاء في نقاشٍ آخر يفتح آفاقًا جديدة للفهم والإصلاح.
تحياتي / إحساس غالي