السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، تحية طيبة عطرة لأعضاء منتديات ستار تايمز الكرام، ولإدارة الموقع والمشرفين الأفاضل، ولكل من يحمل في قلبه شغفًا للفكر والتأمل والمعرفة...
حين نتأمل سلوك الإنسان في حياته اليومية، ونفتش في دوافعه وآثامه وأخطائه، سنجد أن كثيرًا من تلك الأخطاء لا تُرتكب من باب الجهل، ولا من باب السوء المتعمد، بل من باب "الاستعجال". ذلك المرض الخفي، الذي تسلل إلى أعماق الإنسان منذ أن بدأ يركض في مضمار الحياة، والذي جعل من الصبر مهارة مفقودة، ومن التريث فنًّا منسيًّا، ومن التأنّي فضيلة لا تُمارَس. فـما هو الاستعجال؟ وكيف يتشكل في النفس؟ وما أمثلته في حياتنا اليومية؟ وما أثره في السلوك؟ أسئلة كثيرة تُطرق الأذهان عند الخوض في هذا المفهوم، ويستحق أن نفرد له هذا الرد الرفيع لنتأمل جوهره ونبحر في عواقبه.
الاستعجال، في تعريفه النفسي والسلوكي، ليس مجرّد رغبة في التعجيل بالنتائج، بل هو حالة وجدانية وعقلية يتملك فيها الإنسان توقًا مفرطًا لاختصار الزمن، وتجاوز المسارات الطبيعية للأشياء، ورفض مراحل النمو أو النضج أو التكوين، لصالح نتيجة فورية ترضي شهوة التملك أو السيطرة أو التقدّم. إنّه استعجال يتخطى الحكمة ويقفز فوق سنن الله في الكون، لأنه ببساطة يتناسى أن كل شيء في الحياة يولد صغيرًا ثم يكبر، يُغرس ثم ينبت، يُبذر ثم يُثمر، يُخطط له ثم يُنفّذ.
أول من استعجل في التاريخ البشري، كان الإنسان الأول نفسه. حين عصى آدم ربه، لم يكن ذلك جهلاً ولا استهتارًا، بل كما تقول بعض التفاسير: استعجالًا في تحصيل ما وعده الله به من الخلود والعلم. وهكذا بدأ الاستعجال أول معصية على الأرض، وأول سقطة في طريق الإنسانية. ومنذ ذلك الحين، والاستعجال يرافق الإنسان في مسيرته، يُحبطه في تربيته، يُخرّبه في قراراته، يُضلّه في حكمه، ويزجّ به في متاهات لا أول لها ولا آخر.
ومن يتأمل القرآن الكريم، يجد أن الله ذمّ الاستعجال في أكثر من موضع، فقال جل شأنه: ﴿وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً﴾. وقد قالها ربّنا في مقام التوبيخ لا المدح، لأن العجلة تتنافى مع سُنن الإصلاح وسير الحكمة. بل إن الأنبياء أنفسهم كانوا يُنبهون إلى خطورة الاستعجال، كما في قول موسى عليه السلام: ﴿وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى﴾، ولكن الله عزّ وجل نبهه إلى أن الاستعجال في غير موضعه كان سببًا في فتنة قومه. وقصة موسى مع السامري شاهدة على أن الاستعجال في غيابه أفسد عقيدة قومه.
إن أخطر ما في الاستعجال أنه يُغشي البصيرة، ويُعطل ملكة التقدير، ويختصر المسافة بين القرار والخطأ. وهو الذي يجعل الشاب يُقرّر الزواج دون روية، ثم يندم. ويجعل المستثمر يُخاطر بماله في مشروع دون دراسة، ثم يخسر. ويجعل الطالب يختار تخصصًا جامعيًا بسرعة، فيملّ. ويجعل الموظف يترك عمله في لحظة غضب، ثم يعضّ أصابعه. وهو ما يجعل كثيرًا من الناس يخوضون في نقاشات دون معرفة، أو يُصدرون أحكامًا دون علم، أو يتخذون مواقف حاسمة بناء على ظنون لا حقائق.
والاستعجال له صور كثيرة في حياتنا، بعضها ظاهر وبعضها خفي، وبعضها فردي وبعضها جماعي. الاستعجال في التوبة، مثلًا، حين يريد الإنسان أن يتوب ثم يطلب فورًا أن يشعر بالطمأنينة والانشراح وكأن الذنب لم يكن. أو الاستعجال في الحُب، حين يرى أحدهم شخصًا يُعجبه شكله أو صوته أو حضوره، فيعتقد أنه وقع في "حب العمر"، ويهدم حياته ليبني على وهم زائل. أو الاستعجال في الشهرة، حين يسلك البعض طرقًا رخيصة ومهينة للوصول إلى الأضواء. أو الاستعجال في الثروة، حين يبحث المرء عن الكسب السريع ولو بوسائل غير مشروعة.
ومن أعجب صور الاستعجال كذلك، هو استعجال الدعاء. فيُكثر المرء من السؤال والتضرع، ثم إذا لم يُستجب له في التوّ واللحظة، قال: دعوتُ فلم يُستجب لي. وهنا يأتي التحذير النبوي البليغ: "يُستجاب لأحدكم ما لم يعجل". فالعجلة في الدعاء تفقد القلب صفاءه، وتحوّل الرجاء إلى غضب، والتسليم إلى شك، والثقة إلى جزع. بينما كان الأولى أن يُدرك الإنسان أن تأخير الإجابة ليس إهمالًا بل رحمة، وأن تأخير ما يريده قد يكون عين ما يحتاجه.
ولعلّ من أجمل ما قيل في ذمّ العجلة، قول بعض الحكماء: "من تعجّل الشيء قبل أوانه، عُوقب بحرمانه". وهي قاعدة ذهبية، تُحاكي سُنن الله في الأرض، وتُربّي النفس على الصبر، وتُعلّم القلب أن كل شيء له ميقات. فالتعجل بالثمار قبل نُضجها يُفسدها، والضغط على الطفل لينضج قبل وقته يُشوّه نموّه، ودفع العلاقات للزواج قبل اكتمال النضج يُحوّل الحب إلى عبء. كما أن بناء البيوت سريعًا دون تخطيط يُهدّدها بالسقوط، وإنشاء المشروعات دون دراسة يُغرق أصحابها في الديون. وهكذا، تجد أن الاستعجال لا يولد إلا الإخفاق.
وما نراه اليوم في مجتمعاتنا من ركضٍ محموم نحو التغيير السريع، والنجاح السريع، والتعلّم السريع، وحتى "العلاقات السريعة"، هو نتيجة حتمية لعصر السرعة الذي نحيا فيه، ولكن لا ينبغي لنا أن نخلط بين "السرعة" و"الاستعجال". فالسرعة قد تكون مُنظمة، مدروسة، محسوبة، أما الاستعجال فهو انفلات، وخروج عن المعايير، وهروب من طبيعة الحياة إلى أوهام الإنجاز السريع. والنتيجة دائمًا واحدة: ندمٌ بعد خطأ، وحسرة بعد فوات، وألمٌ بعد قرارٍ لم يُراجع.
حتى في الدين، نجد أن أحكام الشريعة جاءت تدريجية، وأن الوحي نفسه نزل مفرّقًا على مدار ثلاث وعشرين سنة، وأن الأنبياء صبروا عقودًا وهم يدعون أقوامهم. ولو كان في الاستعجال خير، لكان أول من استعجل هو رسول الله ﷺ. ولكنه، كما قالت السيدة عائشة: "ما خُيّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا"، وكان ينتظر، ويُمهل، ويُعطي الفرص، ويستشير، ويفكر، ويُؤجل، ولا يندفع.
إن التربية على التريث تبدأ منذ الطفولة، حين نعلّم أطفالنا أن الصبر فضيلة، وأن النجاح لا يأتي بين ليلة وضحاها، وأن الأخطاء لا تُصلَح بعصا سحرية، وأن الحُب لا يُولد من أول نظرة، وأن الصداقة لا تُبنى في جلسة، وأن الفهم لا يتحقق من درس واحد. التربية على التأني تعني تعليم النفس كيف تحترم المراحل، كيف تواكب الزمن لا تتجاوزه، كيف تفهم أن الكمال لا يُنجز بسرعة، وأن كل شيء جميل يحتاج إلى وقت. حتى الزهرة، لا تتفتح بمجرد غرسها، بل تمر بدقائق وساعات وأيام كي تخرج للعالم ناضجة وعطرة.
وفي النهاية، فإن محاربة الاستعجال ليست قرارًا لحظيًّا، بل تربية طويلة، ومجاهدة مستمرة، وتذكير دائم للنفس بأن العجلة ليست دليل القوة، بل دليل ضعف في الرؤية. وأن الإنسان المتزن هو الذي يرى بعيدًا، لا الذي يركض نحو السراب. إن من أعظم صفات العقل أن يصبر، ومن أسمى درجات الحكمة أن تؤجل القرار حتى تكتمل ملامحه. فلتكن رسالتنا لأنفسنا دائمًا: لا تستعجل شيئًا لم يُكتب لك، فإن ما هو لك سيأتيك ولو بعد حين، وما ليس لك، فلن تناله ولو ركضت له ركضًا.
فما أجمل أن يكون التريث مذهبك، والتأني شعارك، والحكمة ضوءك، والصبر دليلك، حينها فقط... ستصل إلى ما تريد، في الوقت الذي ينبغي، وبالطريقة التي تليق بك، وبالنتيجة التي تستحقها.
تحياتي / إحساس غالي