السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تحية طيبة للإدارة الكريمة والمشرفين الأفاضل، ولكل الأعضاء النبلاء في هذا الصرح المميز، راجين من الله أن تكونوا بخير حال، وأن تكون أرواحكم مغمورة بالسكينة والتوفيق. نلتقي اليوم في مناقشة عنوانه صادم في ظاهره، عميق في جوهره، ملتبس في رؤيته، واضح في دلالته: "لهذا السبب يجب عليك أن تتوقف عن إعطاء النصائح لأحبائك"، وهو موضوع لا يمكن تناوله بسطحية أو بعين العادة، بل يستدعي النظر المتأمل والوعي الناضج، فبين الرغبة في الخير والصمت الحكيم شعرة، وبين النصيحة المحبة والتوجيه المربك خيط رفيع، وبين الإخلاص والوصاية مسافة قد لا يراها إلا من جرب الألم والتجاهل والاستنزاف.
إن من أعظم صور الرحمة التي نحملها لأحبابنا أن نرغب لهم الخير، وأن نراهم في أفضل حال، وأن نحاول بكل ما نملك أن ننتشلهم من الأخطاء، أن نمد لهم أيدينا حين يتعثرون، أن نغرس بذور الرؤية حين يعمون عن الطريق، غير أن ما يبدو نبيلاً في الظاهر قد يكون سُمًّا بطعم العسل في حقيقته، إذا لم نحسن توقيته، ولم نضعه في موضعه، ولم نقدمه بمنطق الإنسان لا بمنطق الأستاذ. فالنصيحة قد تتحول من مرآة صافية إلى سكين في القلب إذا جاءت بغير طلب، أو كانت في وقت جرح، أو خرجت من فم لا يرى في الآخر إلا مشروع إصلاح لا إنسانًا له خصوصيته ووجعه ومزاجه.
إن الناس لا تكره النصائح لأنها ضد الخير، بل لأنها غالبًا تُلقى بعلو، وتُبنى على شعور بالتفوق، وتُقدَّم بلهجة من رأى النور ويريدك أن تراه كما رآه هو، متناسيًا أن لكل عين ضوءها الخاص، ولكل عقل زاوية رؤيته. وما بين نصيحة صادقة لكن مزعجة، ونصيحة مغلفة بالتعالي والاشمئزاز، يتقافز الحبيب من حبل إلى حبل حتى يسقط عنك، لا لأنك سيئ، ولكن لأنك أرهقته بكثرة ما تمنح دون إذنه، وكأنك لا ترى فيه الكفاءة الكافية ليصلح نفسه بنفسه.
إن النصيحة غير المطلوبة، مهما كانت نواياها طاهرة، تظل شكلًا من أشكال التدخل غير المرغوب فيه، كأنك تقتحم مساحة شخصية كان من الأفضل أن تنتظر فتح بابها، لا أن تقتحمها بدافع الحب أو القلق. فالحب، في عمقه، ليس سعيًا دائمًا إلى الإنقاذ، بل هو احترام حقيقي لرحلة الآخر، حتى وإن تعثر. وأحيانًا، يكون في الصمت حكمة، وفي الانتظار رحمة، وفي الدعاء دعم أعظم من ألف كلمة تُقال.
وقد نخطئ كثيرًا حين نعتقد أن أحبّاءنا ينتظرون منّا المواعظ، بينما هم في الحقيقة ينتظرون الحضور، الإنصات، الاحتواء، يدًا تُربت، لا لسانًا يجلد، وقلبًا يشعر، لا عقلًا يحاسب، ووجودًا يُطمئن، لا رأيًا يفتح معركة داخل الروح. إننا حين نمارس النصح بكثرة، نبدو وكأننا في موقع القاضي، لا الصديق، وننسى أن أحبابنا ليسوا متهمين، بل بشرًا مثقلين بأوجاعهم، لا ينتظرون منا إلا المساندة الهادئة، لا التقويم الصاخب.
وتزداد خطورة النصح لأحبابنا عندما نُفرط فيه، إذ يصبح مع الوقت عادة، والعادة إذا ما تغلغلت تحوّلت إلى سلوك مزعج، يشوّه العلاقات ويجعل الآخر دائم الشعور بأنه تحت مجهر التقييم، وكأنك لست صديقًا بل مشروع مراقبة وتوجيه. وهنا تبدأ العلاقة بالاهتزاز، ليس لأن الطرف الآخر لا يحبك، بل لأنه سئم أن يكون تلميذًا في صفك بينما هو يبحث عن شريك في إنسانيته لا معلمًا دائمًا لحياته.
ولعل ما يُؤلم أكثر هو أن كثرة النصائح تؤدي إلى نتائج عكسية تمامًا، إذ قد يتمسك الإنسان بأخطائه لا عنادًا، بل دفاعًا عن حريته، رافضًا أن يُختزل إلى مجرد مستقبل لما تقوله، ويشعر أن وجوده يُختزل في أخطائه لا في مشاعره، فيحتاج إلى أن يثبت استقلاله ولو بالتحدي، وأن يؤكد ذاته ولو بالمخالفة. وهنا تقع الطامة، لأن النية الطيبة تحصد الجفاء، والمبادرة تُقابل بالجدار، والحرص يُرد بالابتعاد.
ومن هنا، تتجلى الدعوة الصامتة إلى التوقف عن إغراق أحبابك بالنصائح، ليس لأنهم لا يستحقون الخير، بل لأنهم أحق بالهدوء، أحق بالاحترام، أحق بأن يسيروا في طرقهم بخياراتهم، ولو تعثروا ألف مرة. فالنمو الحقيقي لا يُفرض، بل يُكتسب، والوعي لا يُصبّ في الروح صبًا، بل يُستخرج منها حين تنضج بالخبرة والتجربة، والنضج لا يُهطل من السماء بل يُزرع من الداخل، ونحن لسنا الآلهة التي تُدير حياتهم، بل المحبين الذين ينتظرونهم بعد كل سقوط، بابتسامة لا بتأنيب.
بل إن النصيحة إذا ما جاءت متأخرة، قد تكون بلسماً، وإذا ما جاءت مطلوبة، كانت كأنها هدية، وإذا ما جاءت بعد استئذان، كانت كأنها مصباح في ليلة ظلماء. لكن أن نقدمها دومًا دون وعي، دون مراعاة للزمن والمزاج والمكان، فإننا نكون كمن يزرع وردًا في أرض عطشى دون أن يسقيها، فيموت الورد، ونتهم الأرض بالعقم، بينما العيب فينا لأننا استعجلنا الإزهار قبل أن نُحضّر التربة جيدًا.
وقد يرى البعض أن الامتناع عن النصيحة نوع من الإهمال أو التقاعس أو التخاذل عن حبّ الآخر، لكنه في الحقيقة حكمة نبيلة، وشكل راقٍ من أشكال الحماية، حيث نمنح من نحب فرصة أن ينمو بطريقته، أن يخطئ دون أن نُلاحقه بالتعليقات، أن يعود إلينا لا لأننا أذكى منه بل لأننا كنا هناك، في الخلفية، ننتظر دون صوت، نصغي دون إلحاح، نبتسم في خفاء، ونبكي في صمت، لكننا نؤمن به.
وكم من علاقة انتهت لا بسبب خيانة أو كذب، بل لأن أحدهم كان يُشعر الآخر دائمًا أنه ناقص، أنه لا يملك القرار، أنه دائمًا بحاجة إلى من يرشده، وهذه المشاعر قاتلة، لأنها تفتك بثقة الإنسان بنفسه، وتزرع داخله شعورًا بالدونية، لا يُشفى منه بسهولة، وربما لا ينساه أبدًا. لذا، فالأجمل من النصح هو أن نحيا بجمال سلوكنا، أن نكون قدوة لا وصاية، أن نكون نورًا في الطريق لا إشارات صارمة.
وفي بعض الأحيان، تكون أفضل نصيحة هي أن تحكي قصة ذاتية، لا أن تُصدر حكمًا، أن تتحدث عن تجربة عشتها، لا عن تقويم لحياة غيرك، أن تُظهر ضعفك قبل أن تُشير إلى ضعفهم، فبذلك نزرع الثقة، ونفتح قلوب الآخرين لتقبل الرسالة دون أن يشعروا بالإهانة. فالعبرة ليست بما نقوله، بل بكيفية قوله، وبالنية الصافية التي تُشعر الآخر بالأمان لا بالإدانة.
وقد يبدو غريبًا أن تُطلب منا الرحمة أكثر من الحكمة، لكن الواقع يثبت أن ما ينقص علاقاتنا اليوم ليس الفهم بل الحنان، ليس الذكاء بل الاحتواء، ليس التوجيه بل الإنصات، ليس النصح بل الدعاء، فالقلوب المثقلة تحتاج إلى الأمان أكثر مما تحتاج إلى النصيحة، والروح المنكسرة تحتاج إلى صدرٍ يحتضن، لا لسانٍ يوبّخ، والألم الداخلي لا يُعالَج بموعظة بل بحضورٍ لا يخذل.
لذلك، إن أردت أن تنصح، فاسأل أولًا: هل يريد ذلك؟ هل يحتاجه الآن؟ هل سيستفيد أم سيتألم؟ هل طريقتك فيها ليونة؟ وهل نيتك خالية من رغبة في التباهي؟ وهل توقيتك مناسب؟ وهل النصيحة تصدر منك كشعور أم كأداء واجب؟ فإن لم تكن الإجابة واضحة، فلتصمت، فإن في الصمت حكمة لا يدركها إلا من عاش جراح التطفل المقنّع بالحب.
وفي النهاية، لست أدعوك إلى أن تمتنع عن الخير، بل أن تُحسن توقيته، أن تُقدّمه بوعي، أن تُلفّه بحب حقيقي غير مشروط، أن تعرف متى تُنصت أكثر مما تتكلم، أن تكتفي بحضورك الصادق حين يكون الكلام عبثًا. فبعض الصمت، أبلغ من ألف نصيحة، وبعض الانتظار، أكرم من ألف تدخل، وبعض الدعاء، أقوى من ألف خطة إصلاح.
فامنح أحبّاءك حرية الخطأ، حرية التعلم، حرية الاختيار، وكن دومًا هناك، لا لتوجّه، بل لتحتضن، لا لتحاكم، بل لتدعم، لا لتُصلح، بل لترافق، فذلك هو جوهر الحب في أعلى تجلياته.
تحياتي / إحساس غالي
#النصيحة_والحب #فن_العلاقات_الإنسانية #الوعي_العاطفي
#التواصل_الذكي #الصمت_الرحيم #أخلاقيات_النصح
#العلاقات_العائلية #حكمة_المشاعر
#الاحتواء_أولا