يتردد كثيراً، هذه الايام، مصطلح النظام الدولي الجديد، الذي برز بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ومعسكره، وتكرس بعد حرب الخليج الثانية، وبات الحديث عن تقبل اي ظاهرة أو موقف سياسي معين مرهوناً بمدى تطابقه أو قربه من هذا النظام الدولي الجديد.
فما هو هذا النظام الدولي الجديد؟ وهل هو جديد حقاً؟
بالعودة إلى الادبيات التي بشرت بهذا النظام في السنوات القليلة الماضية، والشعارات التي رفعتها القوى العاملة على دفعه، يمكن ان تستنتج وبسهولة ماهية هذا النظام وخلفياته. فدول الغرب، على رأسها الولات المتحدة الاميركية، تطرح هذا المصطلح للدلالة على مرحلة ما بعد الحرب الباردة استكمالاً واستدراكاً لسياساتها الاستعمارية وليست تراجعا أو تعديلاً لتلك السياسات. فالغرب لايزال ينظر إلى منطقتنا الإسلامية نظرته السابقة، وهي انها لا تعدو كونها خزاناً هائلاً من الثروات الطبيعية «نفط ومعادن» وسوقاً استهلاكية لبضائعه وثقافته.
ومن الشعارات التي ترفعها القوى الداعية إلى النظام العالمي الجديد ما يبهر الانظار ببريقه، إلاّ انّه بريق زائف لا يخدع سوى متخاذل أو متواطىء أو جاهل لا بصيرة له.
وأهم هذه الشعارات: حقوق الإنسان وحق تقرير المصير واحترام الحريات.. الخ
على اننا نلحظ بعض التغير في الاساليب التي يتبعها الغرب لتحقيق سياساته: فمن حضور مباشر قوي في ساحة معينة، إلى وجود رمزي في ساحة اخرى، إلى دفع بعض «الواجهات» الوطنية في ساحات كثيرة من العالم الاسلامي.
وفي حين اننا نجد وضوحاً تاماً لدى الغرب في تعامله وعلاقته مع العالم الاسلامي (على اساس المصلحة الخاصة).
نجد الخطاب الاسلامي يراوح في ما يخص العلاقة مع الغرب بين نقيضين يصعب الجمع بينهما، يتمثل الاول بالدعوة إلى «التعايش الحضاري»، وهذه دعوة يرى مروجوها مسوغات لها منبثقة من فكرة الارادة الالهية بوجود التعدد والاختلاف والتنوع البشري، كما تمليها ضرورات الواقع المعاش.
والموقف الثاني يعتبر ان الاصل في العلاقة مع الغرب هو العداء والتناحر ومحاولة السيطرة والاخضاع «الغرب غرب والشرق شرق ولن يلتقيا كما يقول كبلنغ» ويجد اصحاب هذا الموقف مساوغاتهم في الشواهد التاريخية الكثيرة التي تدعم هذا التوجه خصوصاً ان هناك عمقاً تاريخياً لصراع الغرب مع الشرق يبدأ بمحاولات اليونان مروراً بالرومان والحروب الصليبية إلى موجة الاستعمار الاولى وانتهاء بما يسمى النظام الدولي الجديد.
وما يزيد من ابراز هذا الموقف بعض التوجهات الغربية الداعية إلى اختلاق نقيض حضاري عدو هو العالم الاسلامي، وان حاول مرددو هذه الدعاوى التمويه عن خلفية خطابهم بمحاولة تركيز الاستعداء على الاصولية الإسلامية دون غيرها. وتقوم اسرائيل، في هذا المجال، بسعي حثيث لترسيخ هذا التوجه في الوعي الغربي والاميركي بوجه خاص.
لاشك في ان التراوح بين هذين الموقفين النقيضين من العلاقة بالغرب ونظامه الدولي انعكس على التوجهات الفكرية والسياسية لمعظم الحركات الاسلامية وترك تعبيراته واضحة على الخطاب الاسلامي عموماً.
وبالعودة إلى الشعارات المرفوعة هذه الايام، من حقوق الإنسان واحترام الحريات، لا نجد عناء كبيراً في اكتشاف الازدواجية التي يتعامل فيها الغرب مع هذه الشعارات في قضايا متشابهة يخص بعضها منطقتنا وتمس مصالحه. والاحداث اكثر من ان تحصى حيث تداس تلك الشعارات نفسها من قبل القوى التي ترفعها ومأساة البوسنة الجريحة خير شاهد على كذب ادعاءات اركان النظام الدولي الجديد.
على ان ما يهمنا الآن وقبل كل شيء تلمس الظروف الجديدة التي احاطت بالمنطقة الإسلامية وأدت بعد سقوط الاتحاد السوفياتي ومعسكره، إلى تفرد الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة الاميركية، بقيادة العالم وتوجيهه، مع ما يستلزم ذلك من وضع استراتيجية جديدة، ليس فقط على مستوى الخطاب السياسي، بل وأيضاً في المناورة والتحرك حفاظاً على مكاسب الصحوة الإسلامية المباركة.
ومن آثار الظروف الجديدة تميز المرحلة الراهنة عن سابقاتها بميزات عدة اهمها اثنتان:
1ـ هيمنة الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين على مقدرات دول الجنوب وعلى رأسها عالمنا الاسلامي.
2ـ التسارع المذهل في خريطة التحولات والتحالفات الغربية، وخصوصاً سقوط هيبة ومكانة ودور دول المنطقة الإسلامية
كما برزت حقائق ومستجدات فرضتها احداث السنوات الثلاث الماضية، اعقبتها تأثيرات سلبية على مجمل علاقات دول المنطقة الإسلامية، يمكن ايجازها بثلاثة معطيات:
أولاً: نتائج حرب الخليج الثانية «عاصفة الصحراء» والآثار القاتلة التي خلفتها، اذ نجحت في تحطيم ما بقي من أي مقومات القوة لدى دول المنطقة، بعد استحكام العداوات بينها، واعتماد البعض على اتفاقات الحماية الاجنبية.
ثانياً: تعاظم السيطرة الاميركية المباشرة على المصادر النفطية في منطقتنا، مع ما يستتبع ذلك من التحكم بأسعار النفط، واخراج المال والطاقة من دائرة الصراع كونهما سلاحان فعالان جداً في المواجهة وذلك بسبب تزايد حاجة الغرب لنفط المنطقة التي تضم اكبر احتياطي عالمي، اضافة إلى افشال مشاريع التنمية في بلادنا.
ثالثاً: اتجاهات السلام مع الكيان الصهيوني، وانعكاسات ذلك على ازالة الحاجز النفسي بينه وبين العرب والمسلمين والسعي لادماج اسرائيل في المشاريع الامنية والتنموية للمنطقة.
وعلى تعدد ساحات الصراع المفتوحة، من البوسنة الجريحة إلى الصومال والعراق والجزائر ولبنان وفلسطين، تبقى القدس تحتل مركز القلب في وجدان المسلمين، ولا غرور في ذلك بعدما انتبه الغرب نفسه لأهميتها، حيث وضعت الادارة الاميركية ثقلها في محاولة لوضع اسس للسلام في المنطقة لا نراه في أي حال عادلاً. وهكذا رأينا عودة التحالف الاستراتيجي بين اميركا واسرائيل التي لا زالت رأس الحربة في المشروع الغربي للهيمنة على المنطقة.
وقد وعت القيادات الإسلامية في لبنان هذه الحقيقة وتوجه كل جهودها لمحاربة هذا الكيان الغاصب والغدة السرطانية، ولا غرو ان نسمع من البيت الابيض وتل ابيب اصوات تنادي بضرورة تحجيم وضرب «الاصوليين» في لبنان لازالة العقبة، ربما كانت الاخيرة، في وجه «التطبيع» المزمع مع الكيان الصهيوني وقبوله عضواً فاعلاً في المنطقة.
هذا هو التحدي الذي نواجهه، فهل نعي هذا التحدي أو هل نستحقه؟