يقول محمود درويش: "مختلفون على كلّ شيء/ ولنا هدف واحد، أن نكون"..

لنواصل العناية بالأحداث الجسام، التي تبدو آثارها واضحةً في الحاضر الفلسطيني والعربي. عدم الاهتمام بها لن يعجّل برفع المخلّفات والجروح التي رسمت واقعنا اليوم، وذكرى النكبة التي حَلَّت قبل أيام (15 مايو/ أيار 1948)، مشيرةً إلى مرور 77 عاماً على الجرائم التي ارتكبها الصهاينة في فلسطين، تُعَدّ مناسبةً ثمينةً لإعادة التفكير مجدّداً في مآلات المشروع الوطني الفلسطيني، رغم كلّ الويلات التي تملأ الحاضر العربي والفلسطيني. وإذا كانت معركة طوفان الأقصى (7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023)، قد أحيت الأمل في عودة المواجهة بالمخاطرة والمقاومة، بالتصدّي للعدوان، والغطرسة الصهيونية والغربية، فنحن مطالبون اليوم باحتضان شراراتها، والدفع بها في اتجاه ترسيخ خطط الصمود المتواصلة، رغم صعوباتها، ورغم غياب مبادئ التكافؤ الميداني. ذلك أن منطق التكافؤ الحسابي، الذي يُلوِّح به بعضهم، يُعَدُّ دائماً مبرّراً غير كافٍ لوقفها، إنه منطق ملأ (ويملأ) تاريخ الاستعمار الاستيطاني منذ مطالع القرن العشرين، ولم يمنع النضالات والمعارك، ولا الانتصارات والهزائم، ولا الانتفاضات المتجدّدة، ولا الأخطاء والتجاوزات التي حصلت. ولأن القضية الفلسطينية ما زالت قضية الحاضر العربي والكوني، فإنه لا بديل عن مشروع إنعاش روح ما رسمه طوفان الأقصى، زمن الاحتفال بالذكرى، وبمشروع مواصلة مقاومة الكيان الصهيوني والغرب الإمبريالي.
سنواصل العناية بما تبقّى من حركة التحرّر والتحرير العربية، رغم مختلف صور الحصار والخنق، وصور القتل والحرق، التي تتواصل فوق آخر قلاعها، أرض فلسطين. ورغم مختلف صور الصمت والتواطؤ المُعلَن بين الغرب الإمبريالي والحركة الصهيونية، وما ترتّب عمّا ذكرناه كلّه من جرائم يصعب حصرها، فإن شعارات وأغاني التحرير المتواصلة رغم خفوت أصدائها أحياناً، في كثير من الساحات والمنتديات، تُعلِن للعالم أجمع أنه لا يمكن وقف مسلسل الطموح الفلسطيني وطموح الشعوب العربية، والأحرار في العالم أجمع، الهادف إلى مزيد من التشبّث بالمشروع الوطني الفلسطيني. ولن يتحقّق ذلك من دون مواصلة المقاومة والصمود، والاستمرار في إحياء ذكرى النكبة والهزيمة، مع محاولة البحث عن السبل التي تكفل معانقة الأمل في التحرير، وفي وقف مسلسل الإبادة، وما يرتبط به من سياسات تستهدف التخلّي عن مشروع التحرّر الفلسطيني، بتوسيع آليات التطبيع، ورسم الأحلام والخرائط الجديدة، التي تعزّزت في السنوات الماضية، من دون أن يتمكّن من يقف وراءها، لا من تحقيق مشروع الإبادة والتهجير، ولا من وقف أفعال المقاومة ونتائجها.
لا سبيل لمواجهة حالنا اليوم إلا بمعانقة مخاطر دروب المقاومة التي انطلقت منذ أزيد من سنة ونصف السنة
تحلّ الذكرى هذه السنة في زمنٍ يدعونا إلى مواجهة المتغيّرات الدولية والعربية، ومحاولة تعقّل مختلف الشروط السياسية والتاريخية المُؤطِّرة لها، وهي تدعونا إلى مواجهة الأوضاع العربية العامّة، لمعرفة مبرّرات تخلّيها عن دعم مشروع حركة التحرّر الفلسطيني، وانخراطها في مراكب التطبيع. كما تدعونا لمواجهة المتغيّرات التي تقرّبنا من واقع الحال الفلسطيني، لمعرفة مواقع أقدامنا، داخل السياق التاريخي المُؤطِّر لوجودنا ولطموحاتنا في السياسة، وفي موضوع التحرير. وأتصوّر أنه يلزمنا أن نفكّر في كلّ ما أشرنا إليه، في علاقاته بمآلات أوضاعنا العامّة، في عالم تناقصَ فيه الأفق العربي التحرّري، الذي بناه جيل من الوطنيين الفلسطينيين، وغابت اليوم كثير من ملامحه في أدبيات ومعاهدات السلام، وما تلاها من تراجع في أبعاد التحرّر الأخرى، الأمر الذي ساهم في مزيد من ترسيخ الكيان الاستعماري الصهيوني فوق أرض فلسطين، فتمكّن الصهاينة من بناء دولة المستوطنات، واستعانوا في عمليات البناء بحكايات آباء الصهيونية ودهاقنة الغرب الإمبريالي، وتمكّنوا من منح مشروعهم الاستعماري سرديةً تكفل له إمكانية التغنّي بأرض الميعاد، وقد أصبحت تتجاوز اليوم إسرائيل الكُبرى، وتحلم بشرق أوسط جديد، يتحوّل فيه الصهاينة إلى كيان وكيل للغرب الإمبريالي في المشرق العربي.
تدفعنا الذكرى لنفتح أعيننا جيّداً، ونعاين المتغيّرات الجارية في المحيط الفلسطيني والعربي، لعلّنا نتمكّن من بلورة الأسئلة الجديدة والمناسبة في موضوع المآل الذي آلت إليه أحوال الفلسطينيين، أحوال الضفة والقطاع، أحوال إجراءات اتفاقية المبادئ المعلّقة والمجمّدة. إنها تحلّ لتدفعنا إلى التفكير مجدّداً في علاقتَي النظام العربي والجامعة العربية بمشروع تحرير أرض فلسطين، وتجعلنا نتعرّف إلى أسباب عجزنا وعدم قدرتنا على وقف مشروع الإبادة الذي يواصل تهجير الفلسطينيين من أرضهم، ومحاصرة مشروع استقلالهم. إنها تحلّ في زمن أصبحنا نعاين فيه ظواهر لا عهد لنا بها في تاريخ النضال العربي الفلسطيني، ونتصوّر أن هذه الظواهر تؤشّر إلى جملة من المعطيات السياسية المرتبطة بنهاية مرحلة من النضال الفلسطيني وبداية أخرى، فقد اختارت الأنظمة العربية نفض يدها من مشروع التحرير، ومشروع الدولة الفلسطينية، واختارت فتح أبوابها ونوافذها للكيان الصهيوني وحلفائه، في إطار حسابات سياسية، ذات صلة بالمتغيّرات الإقليمية والمتغيّرات الدولية الجارية في العالم.
رغم صور الصمت والتواطؤ المُعلَن بين الغرب الإمبريالي والحركة الصهيونية شعارات التحرير وأغانيه متواصلة
تحلّ الذكرى في وضع عربي فلسطيني يزداد سوءاً، إنها تضع أجيالاً جديدةً من الفلسطينيين والعرب أمام تاريخ من عقود زمنية مضت برجالها وقياداتها وخياراتها وتضحياتها، عقود خلت بمبادراتها المتعدّدة وأخطائها، وبصمت جوانب عديدة من صور تطوّر القضية، إذ نفترض أن مواصلة العمل اليوم في ضوء كلّ ما جرى، وفي ضوء أسئلة المرحلة وخياراتها، تتطلَّب مراجعةً سياسيةً تاريخيةً جديدةً، تُمَكِّن من استشراف الأوجه الممكنة لصراع تاريخي كبير، صراع يرتبط اليوم كما ارتبط في بداياته، بشروط عربية وإقليمية ودولية، ويرتبط أيضاً بواقع الكيان الصهيوني واستعماره الاستيطاني لأرض فلسطين، صراع يرتبط اليوم بِسجلٍّ من المواثيق والمعاهدات الدولية، الأمر الذي يضع القضية أمام امتحانات جديدة، من أجل تجاوُز المآلات التي أصبحت عليها منذ سنوات، وهي مآلات تراجع فيها الحسّ الوطني، وتقزّم المشروع الوطني الفلسطيني، وتقلَّص فيها الدعم القومي والدولي، وأصبح الفلسطينيون في جُزر معزولة داخل الضفة والقطاع، من دون أيّ مشروع جامع في التحرير والتحرّر، وفي المواجهة والمقاومة.
لنتمسّك اليوم، بمناسبة الذكرى، بخيار المقاومة والصمود، إذ لا بديل في الأفق السياسي المرئي عنهما. فمن يُقنعني اليوم بخيار آخر، غير خيار الجحيم الذي أمامنا وخلفنا، خيار الحقّ التاريخي مقابل نيران الجحيم التي تحيط بنا. لا سبيل لمواجهة حالنا اليوم إلا بمعانقة مخاطر دروب المقاومة التي انطلقت منذ أزيد من سنة ونصف السنة. فقد يتيح لنا هذا الخيار، بكل ما له وما عليه من بلورة، اليوم أو غداً، جملةً من المعطيات الصانعة لقليل أو كثير من التكافؤ.