السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
وتحية طيبة عطرة لكل الأعضاء الكرام، أسعد الله أوقاتكم بكل خير، وأدام عليكم الصحة والسعادة، ويسرني أن ألتقي بكم اليوم في موضوع شديد الأهمية وعظيم الفائدة، موضوع يمس أعماق النفس البشرية، ويمتد أثره في شتى مجالات الحياة، موضوعنا اليوم هو: كيف تتحكم في أعصابك، ذلك الموضوع الذي يختزل بين سطوره الكثير من الأسرار والحكم، ويحمل في طياته ذلك البعد الإنساني العميق الذي يربطنا بذاتنا ومحيطنا وعلاقاتنا، فلا يكاد يخلو إنسان في حياته من المواقف التي تستثير أعصابه وتزلزل كيانه الداخلي، وما أحوجنا في عصرنا هذا إلى ترويض تلك الأعصاب الجامحة، وكبح جماحها، وتوجيهها الوجهة الصحيحة، لتكون معينًا لنا في دروب الحياة، لا عائقًا أمام تقدمنا ونجاحنا.
إن أعصاب الإنسان تشبه خيولًا جموحة، ما لم يُحسن صاحبها الإمساك بزمامها، ذهبت به كل مذهب، وعرّضته للمخاطر والأخطار، وأقحمته في دوامة من الندم والحسرة، فمن ذا الذي لم يعش لحظة انفلات أعصابه في موقف من المواقف؟ ومن ذا الذي لم يكتوِ بنار كلمة غاضبة أو تصرّف أرعن، ثم عضَّ أصابع الندم على ما صدر عنه؟ وإنه لمن العجب أن تجد العقلاء يتهاوون أحيانًا أمام هجمة الغضب العارمة، فتتساقط أمامها قلاع الحكمة، وتتهاوى أسوار الصبر والتأني، وكأن الإنسان في تلك اللحظة يصبح سجينًا لمشاعره الثائرة، أسيرًا لانفعالاته الجارفة.
إن التحكم في الأعصاب ليس مجرد مهارة سطحية أو قدرة مؤقتة، بل هو سلوك متكامل، ينبع من وعي الإنسان بذاته، وفهمه العميق لمصادر غضبه وأسبابه، وإدراكه لحدود قدراته، وكيفية تفاعله مع الأحداث والمواقف، فتراه وقد تمرّس على ضبط نفسه، وترويض مشاعره، حتى صار كالنهر الجاري، ينساب رقراقًا في المواقف المختلفة، لا تعكره صخور العقبات، ولا توقفه العوائق. أليس من الحكمة أن نتأمل في لحظة غضبنا، كيف تتغيّر ملامحنا، وتعلو وجوهنا حمرة الانفعال، وترتجف أيدينا، وتضطرب دقات قلوبنا، وكأننا خارجون من ذواتنا، ألسنا في أمسّ الحاجة إلى أن نستعيد زمام أمرنا، ونعيد توجيه طاقاتنا نحو الخير والبناء بدلاً من الهدم والضياع؟
إن سِرَّ التحكم في الأعصاب يكمن في فهم النفس البشرية، وفهم تلك الشرارة التي تشعل فتيل الغضب في قلوبنا، فمن الناس من يغضب حين يُساء فهمه، ومنهم من يثور عندما يظن أنه مظلوم، ومنهم من يستشيط غضبًا حين يُنتقص من قدره أو يُقلل من شأنه، ومنهم من تثيره كلمة عابرة أو نظرة عابرة، فهل تأملت يومًا في سبب غضبك أنت؟ وما الذي يفجّر براكين الغضب في داخلك؟ إن الوعي بهذا السبب هو الخطوة الأولى في طريق التحكم في أعصابك، فهو الذي يفتح أمامك باب السيطرة على الذات، والتسامح، والصبر، وضبط النفس.
وكيف نتحكم في أعصابنا؟ إن الجواب يسطع كالشمس في سماء العقلاء، إنه في التدريب المستمر، وفي التنفّس العميق، وفي التأمل الهادئ، وفي تذكّر عواقب الغضب وخيمة، وكيف أنه يدمّر ما بنيته في سنوات في لحظة طيش، فكم من علاقة طيبة انفرط عقدها بكلمة غاضبة، وكم من بيت عامر تهدّم بسبب انفعال لحظي، وكم من صديق وفيّ أصبح خصمًا لدودًا لأن أعصابًا فلتت في لحظة جنون. فهل نرضى لأنفسنا أن نكون عبيدًا لأعصابنا، أم نكون أسيادًا لها نوجّهها كيفما شئنا، ونضبطها كلما حاولت التفلّت والانفلات؟
إن الهدوء سلاح الأقوياء، والصبر حصن الحكماء، والحلم تاج العظماء، ولولا الحلم ما قام للناس ميزان، ولا استقامت لهم حياة، وإن من أعظم أسباب التحكم في الأعصاب أن يدرك الإنسان أنه إنما يغضب لضعف في نفسه، لا لقوة فيها، وأن الغضب سلاح الضعفاء، أما الأقوياء فإنهم يملكون أنفسهم عند الغضب، فيكظمون غيظهم، ويعفون عمن ظلمهم، ويصفحون عمن أساء إليهم. أفلا نتأمل في سيرة العظماء كيف كانوا يواجهون المواقف العصيبة بأعصاب من فولاذ، وبقلوب من نور، فلا ينهارون أمام الاستفزاز، ولا يضعفون عند الهجوم، بل يزدادون ثباتًا وصلابةً ورباطة جأش.
ألم نتعلم من تجارب الحياة أن ضبط الأعصاب مفتاحٌ لحياة ناجحة، وعلاقات متينة، وتواصل فعّال مع الآخرين؟ وكيف لا يكون كذلك، وهو السبيل الوحيد لتجنّب الندم والحسرة على كلمات أُلقيت في لحظة انفعال، وأفعال صدرت في ساعة غضب؟ ألسنا بحاجة إلى أن نتقن فن الصمت في لحظات الغضب، وأن نتقن فن الاعتذار إن أخطأنا، وأن نعيد ترتيب أفكارنا قبل أن نطلق العنان لألسنتنا، فالكلمة إذا خرجت لا تعود، والضرر إذا وقع قد لا ينجبر مهما حاولنا.
إن العقل الذي وهبنا الله إياه هو الفيصل في تلك اللحظات الحرجة، فكم من قرار أحمق صدر من عقل غائب، وكم من كلمة جارحة خرجت من فم فقد السيطرة، وكم من خسائر فادحة لحقت بأناس لم يستطيعوا التحكم في أعصابهم. أفلا يجدر بنا أن نتعلم كيف نحاور أنفسنا في ساعة الغضب، وأن نسألها: ماذا سأجني من هذا الغضب؟ وهل يستحق الموقف كل هذا الانفعال؟ وهل سأندم على ما سأقوله أو أفعله الآن؟ إن هذه الأسئلة تصفع الغضب، وتعيد الإنسان إلى جادة الصواب.
ثم تأمل كيف ينعكس التحكم في الأعصاب على الصحة النفسية والجسدية، فكم من الأمراض المزمنة أصلها الغضب المستمر، وكم من الأوجاع الجسدية سببتها التشنجات العصبية، وكم من الليالي الطوال قضيناها في التفكير في كلمات قلناها في لحظة طيش، فحرمتنا النوم، وأفسدت علينا صفو الحياة. ألا نستحق أن ننعم بالهدوء والسكينة؟ ألا يحق لنا أن نتذوّق طعم السعادة الخالية من التوتر والغضب والانفعال؟
إن التحكم في الأعصاب ليس بالأمر المستحيل، لكنه يحتاج إلى تدريب مستمر، وإرادة صلبة، وإيمان عميق بأن الإنسان قادرٌ على تجاوز انفعالاته، وأنه سيد مشاعره، لا عبد لها، فإنّ الله سبحانه وتعالى قد خلقنا في أحسن تقويم، وزوّدنا بالعقل والحكمة، وزيّننا بالصبر والحلم، أفلا يجدر بنا أن نُحسن استخدام هذه النعم، وأن نستعين بها على ضبط انفعالاتنا، والسيطرة على أعصابنا؟
وختامًا، أود أن أذكّر نفسي وإياكم بأن الحياة مليئة بالمواقف التي تستفز أعصابنا، وما من سبيل لتجنّبها، ولكننا نستطيع أن نختار كيف نتعامل معها، وأن نختار الهدوء بدلًا من الغضب، والحلم بدلًا من الانفعال، والحكمة بدلًا من التهور، فبالتحكم في الأعصاب نصنع من أنفسنا قدوة حسنة للآخرين، ونبني علاقات متينة، ونحقق النجاح في كل مجال، ونعيش حياة سعيدة متوازنة.
وإنني إذ أحييكم على حسن متابعتكم واهتمامكم، أود أن أتقدم بجزيل الشكر والتقدير لإدارة الموقع والأخوة الأعزاء على إتاحة الفرصة لنا لمناقشة هذا الموضوع الهام، وأسأل الله لي ولكم التوفيق والسداد، وأن يجعلنا جميعًا من الحلماء الحكماء، الذين يملكون زمام أنفسهم في لحظات الغضب والانفعال، ويجعلنا قدوة في ضبط الأعصاب، والتعامل الراقي، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
تحياتي / إحساس غالي
#التحكم_في_الأعصاب #قوة_الشخصية #الهدوء_النفسي #الصبر_والحلم
#تنمية_الذات #إدارة_الغضب #الحكمة_في_التعامل
#الوعي_الذاتي #الصحة_النفسية