السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
تحية طيبة لكم، أيها الأعضاء الكرام في هذا الصرح المميز، الذي يجمعنا على درب العلم والفكر والمعرفة، ويقرّب بين الأرواح ويمنحها متسعًا من الأفق الواسع لنحلق في سماء الفكر واللغة والبلاغة. إني إذ أخاطبكم اليوم، أتناول موضوعًا يحمل في طياته عمقًا لغويًا وفكريًا، ويثير في النفس شغفًا للتدبر والتحليل، ألا وهو: الفرق بين الحمد والمدح، ذلك الفارق الدقيق الذي ربما يلتبس على كثير من الناس، فيخلطون بين المقامين، ويظنون أن كليهما سواء في المدلول والمعنى، غير مدركين أن بينهما بونًا شاسعًا في اللفظ والدلالة والغاية.
ألسنا بحاجة إلى وقفة متأنية في رحاب اللغة العربية، لغة الضاد، التي أودع الله فيها من الأسرار والمعاني ما يدهش العقول ويحيّر الألباب؟ ألسنا بحاجة إلى أن نتذوق طعم الكلمات، ونتأمل وقعها على القلوب والنفوس؟ إن الحمد والمدح كلمتان تحملان في جوفهما كنوزًا من المعاني، لكن لكلٍّ منهما موضعه ومقامه وخصائصه التي تميّزه عن الآخر. أفلا يليق بنا أن نسلط الضوء على هذا التمايز، ونفكك خيوط هذا اللبس، ونتناول الفروق البلاغية التي تقف خلف كل منهما؟
إن الحمد في جوهره تعبير عن الرضا والاعتراف بالفضل والثناء، وهو يقتضي المحبة والتقدير العميق، فلا يُحمد إلا ما كان محمودًا عن استحقاق وفضل ونعمة، ولذلك اقترن في دلالته بالثناء على الجميل الاختياري الذي يُقصد به الخير. أوَ ليس الحمد هو الذي قال فيه الحق تبارك وتعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، ليجعل منه عبادة خالصة، ومدخلًا إلى الشكر والثناء والتقديس؟ أفلا ترى أن الحمد في أصله يعبّر عن امتنانٍ يختلط فيه الثناء بالمحبة، فيعلو شأنه فوق المدح الذي قد يخلو من الحب والرضا؟
أما المدح، فهو ثناء يُطلق على ما هو اختياري أو غير اختياري، فربما امتدح الناس جمالًا لم يكن لصاحبه يد فيه، وربما مدحوا الشجاعة والكرم والهيبة، لكن دون أن يستلزم ذلك محبةً أو امتنانًا. والمدح قد يكون لأمر لا يستوجب الثناء في حقيقته، إذ قد يكون تصنعًا أو نفاقًا، وقد يقترن بالثناء المبالغ فيه، وربما يفتقر إلى الصدق في بعض الأحايين. أليس من العجب أن ترى في المجالس من يمدح غير مستحق المدح، ويجعل من الكلام جسدًا خاليًا من الروح؟ أليس المدح في بعض مواضعه خاليًا من حرارة القلب، في حين أن الحمد يفيض من القلب بصدق وإخلاص؟
إن الحمد شكرٌ وثناءٌ في آنٍ معًا، ينطلق من وجدان الإنسان ليعبر عن سرور وامتنان واعتراف بجميل الفضل والإحسان. والحمد لا يكون إلا عن طيب نفسٍ وصفاء سريرة، فهو عبادة قلبية قبل أن يكون لفظًا يُتلى على الألسن. أما المدح، فهو قد يكون زينة الكلام وحليّة المجالس، لكنه لا يستوجب صدق الشعور أو الاعتراف بالفضل، فقد يمدح المرء من لا يستحق، إما رغبة في قضاء مصلحة أو رهبة من سلطان، وقد يطلقه لسانه دون أن يوافقه قلبه.
ألا ترون معي أن الحمد هو عبادة يتقرّب بها العبد إلى ربه، ولذلك صدّرت بها السور والآيات: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، ﴿وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾، ﴿وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾؟ إنه يعبّر عن كمال العبودية وحسن الأدب مع الله تعالى، بخلاف المدح الذي قد يقال في موضع الرياء أو في سياق المجاملة أو التزلف. فما أعمق الفرق بين لسان يلهج بالحمد طاعةً ورضًا وحبًّا، ولسان يمدح رياءً أو خوفًا أو طمعًا!
إن الحمد ينطلق من نور القلب، يملؤه حبًّا ورضًا، ويشرق في الوجدان حتى يفيض على اللسان، فيحمل في طياته صدق المحبة وخالص الشكر، أما المدح فقد يخرج من اللسان دون أن يلامس شغاف القلب، فيكون حبرًا على ورق، أو صوتًا في فلاة. أوَ ليس في هذا التمييز ما يجعل الحمد أرقى وأسمى من المدح في مقام البلاغة والصدق والروحانية؟
إن في لغة العرب لآلئ خالدة، وكل كلمة منها تحمل سرًّا ولونًا ونغمةً تخصّها، فالحمد يلتصق بروح العبادة، ويضيء النفس نورًا وصفاءً، والمدح يكتفي في بعض الأحيان بالظاهر من القول دون أن يلامس الروح. ألا يجدر بنا أن نزن كلماتنا بميزان الدقة والمعرفة، فنحمد إذا استشعرنا الفضل والنعمة، ونمدح إذا كان في موضعه الحق، دون مبالغة أو رياء؟
أيها الأعضاء الكرام، إن تأمل الفرق بين الحمد والمدح يفتح لنا أبواب الفهم في أسرار اللغة وبلاغتها، ويجعلنا نرتقي بألفاظنا ومشاعرنا، فنسمو بها إلى مقام الوعي والحكمة، ونتفكر في كل حرفٍ ننطقه، فالكلمة أمانة، واللسان سيف ذو حدين، وما أجمل أن نجعل حروفنا دررًا تضيء قلوبنا وقلوب من حولنا!
وفي الختام، لا يسعني إلا أن أتوجه بجزيل الشكر والتقدير إلى إدارة الموقع والأخوة المشرفين والأعضاء الأفاضل، على ما يبذلونه من جهد متواصل في خدمة هذا المنبر، وأسأل الله أن يوفقنا جميعًا إلى ما يحب ويرضى.
تحياتي / إحساس غالي
#اللغة_العربية #البلاغة_العربية #جمال_الكلمات #الحمد_والمدح
#أسرار_اللغة #بلاغة_القرآن #ثقافة_لغوية #أدب_الخطاب
#صدق_المشاعر #إبداع_التعبير