كان صباح الأحد الماضي من أسوأ الصباحات التي مرّت بي على الصعيد الشخصي، وأسوأها وأكثرها دموية على أهل مدينتي، مسقط رأسي، مدينة خانيونس، جنوب قطاع غزّة، حيث آلة الموت المجنونة تدور بلا رحمة.
أبلغني أخي، مع ساعات الليل الأخيرة، بنيّته التوجّه صوب مركز توزيع المساعدات الأميركية، أو لو أني صدّقت الوصف، فهو كان ينوي التوجّه نحو فخّ الموت، وذلك بعد أن ظلّت أسرته أكثر من أسبوعين بلا ذرّة واحدة من الطحين الصالح لإعداد الخبز.
ومع تواتر الأخبار وانقطاع الاتصال عبر شبكة الإنترنت بأخي، كنتُ أرتجف كورقة خريف، وأنا أقرأ عن المذبحة التي ارتُكبت هناك بحقّ الجوعى. وإن كان لي أن أصدّق الوصف ثانية، فيجب أن أقول إن مذبحةً قد ارتُكبت بحقّ المجوّعين، لا الجائعين.
كان الوقت يمضي ثقيلاً كحجر صوّان يطحن الحبوب في طاحونة بدائية، وأنا أنتظر خبراً يُطمئن قلبي عن أخي، الذي قرّر الانتقال من شمال مدينة غزّة نحو أقصى الجنوب، بحثاً عمّا يسدّ رمق أطفاله.
وفيما كانت عيناي تلهثان خلف صفحات الأخبار الواردة من هناك، كنت أقرأ أسماء الموتى والمصابين الذين سقطوا بفعل إطلاق الجنود العابثين بأرواح الأبرياء القذائفَ من الدبابات المحيطة بطابورٍ مُزرٍ ومذلٍّ؛ حيث يُحشَر الناس في ممرّ ضيّق، ويُطلَب منهم التقدّم ببطء.
وفيما كانوا يتدافعون لكثرة أعدادهم، كانت القذائف تنهال عليهم من البرّ والبحر. وإن كانت في البداية تُطلَق فوق رؤوسهم، فقد اضطرّ الحشد الغفير للانبطاح أرضاً، لأنّ ما حدث فعلاً كان مخيفاً للعدوّ المدجّج بأعتى الأسلحة، المسيطر على الأرض والسماء والبحر. لكنّ حشود المجوّعين كانت مخيفة، رغم ضعفهم وزحفهم البطيء، وقلّة حيلتهم وجوعهم. وقد أدّى ذلك إلى تحوّل سريع في سلوك الجنود المراقبين للموقف، فأصبحوا يطلقون آلات الموت عشوائياً، سواء من طائرات الاستطلاع المُسيّرة، أو من الدبابات، أو حتى من البارجات البحرية التي تسيطر على البحر، وتصول وتجول فيه.
ولذلك، سقط عشراتٌ من المجوّعين، وكانت أغلب إصاباتهم في الرأس والعنق والعينين، ما يدلّ على أنهم كانوا صيداً ثميناً، وُضِع في فخّ بخطة شرسة ومدروسة، بدأت بحصارهم وتجويعهم ومنع دخول الطعام إليهم منذ ما يقرب من ثلاثة أشهر.
وقعت عيناي على أسماء شبابٍ قُتلوا، وهم من أبناء جيراني السابقين في منطقة غرب خانيونس، حيث عشت مع أهاليهم قرابة ثلاثين عاماً. أذكرهم جيداً حين كانوا صغاراً فقراء، يلعبون في الساحة التي تفصل بين البيوت، تلك التي بُنيت على شكل مربع سكني تتراوح فيه الأبنية بين العمارات العالية والبيوت ذات الأسقف الصفيحية.
لكننا، رغم الفقر، كنّا نعيش حياة قائمة على المحبّة والمشاركة والعطاء. لم نشعر يوماً أن بيننا فوارق؛ كانت بيوتنا مفتوحة الأبواب دائماً، حيث يرتع صغارنا معاً، وتدور بيننا الأحاديث، ونقيم السّهرات الصيفية. وكانت أشجار الرّمان والزيتون، المُطلة من الحدائق المنزلية الصغيرة، تسمع ضحكاتنا فتتمايل أغصانها فرحاً معنا. فرّقتنا الحرب، وأصبحتُ في بلدٍ آخر، لكنّي لم أنقطع لحظة عن متابعة ما يجري في كل بقعة من غزّة الحبيبة. ولذلك، كان يوم المذبحة يوماً لم أنقطع فيه عن البكاء، وأنا أتخيّل جاراتي الفقيرات البائسات، وهنّ يستقبلن جثامين أولادهن، الذين هم في عمر أولادي، عائدين إليهن بلا طحين ولا زاد، بل بلا حياة، مضطجِعين بدماء القهر والخذلان.
كان يوماً حزيناً فعلاً، حتى بعد أن اطمأنّ قلبي على أخي، وعلمت بعودته خالي اليدين. لكنّ فاجعة مذبحة المجوّعين ذبحت روحي وقلبي؛ وقد نقلت وسائل الإعلام صورها وبشاعتها بثّاً حيّاً من داخل مستشفى ناصر، وهو الأقدم في مدينتي. تأكّدت تماماً أنّ الموت جوعاً هو أقسى وأبشع ما يحكم به أعداء الإنسانية على الإنسان، فقد كان صوت جارتي عبر الهاتف يمزّق قلبي، وهي تقول لي: ـ والله يا خيتي، مات جوعان.