"أسباب التنازل عن القضية الفلسطينية: دراسة تحليلية في السياقات السياسية والاقتصادية والثقافية"
المقدمة
تُعد القضية الفلسطينية جوهر الصراع العربي–الإسرائيلي ومركزًا لتضامن الشعوب العربية والإسلامية منذ بدايات القرن العشرين. ومع ذلك، شهدت العقود الأخيرة تراجعًا ملحوظًا في مركزية هذه القضية ضمن أولويات الأنظمة العربية واهتمامات الشعوب. يتناول هذا البحث الأسباب المتعددة التي أسهمت في التنازل الفعلي أو الرمزي عن القضية الفلسطينية، مستعرضًا الأبعاد السياسية والاقتصادية والثقافية والدينية والإعلامية التي ساعدت في هذا الانحسار.
أولًا: الأسباب السياسية
1. سياسات التطبيع الرسمي
أبرزت السنوات الأخيرة اتجاهًا متسارعًا نحو تطبيع العلاقات بين بعض الدول العربية وإسرائيل، كما في اتفاقيات "أبراهام" 2020، التي شملت الإمارات والبحرين والمغرب والسودان. مثل هذا التطبيع تراجعًا عمليًا في الدعم السياسي الرسمي للقضية الفلسطينية.
2. الانقسام الفلسطيني الداخلي
أسهم الصراع بين حركتي فتح وحماس، وتعدد المرجعيات السياسية والأيديولوجية الفلسطينية، في إضعاف الموقف الفلسطيني، ما أتاح للمجتمع الدولي والدول العربية التنصل من التزاماتهم بحجة غياب الشريك الفلسطيني الموحد.
3. تغير أولويات الدول العربية
أصبحت الأولويات الإقليمية مثل الأمن القومي، ومكافحة الإرهاب، ومواجهة النفوذ الإيراني، والتحولات الاقتصادية، أكثر أهمية في أجندة بعض الأنظمة من القضية الفلسطينية.
ثانيًا: الأسباب الاقتصادية
1. التبعية الاقتصادية للغرب
إن اعتماد العديد من الدول العربية على المساعدات الأمريكية أو المؤسسات الدولية، جعل مواقفها السياسية عرضة للتأثير، خاصة في ظل الشروط السياسية المصاحبة للمعونات.
2. التطبيع الاقتصادي مع إسرائيل
بدأت بعض الدول العربية ترى في إسرائيل شريكًا اقتصاديًا وتكنولوجيًا، مما أدى إلى تحولات في رؤية النخب الحاكمة تجاه إمكانية التعاون بدلًا من المواجهة.
ثالثًا: الأسباب الإعلامية والثقافية
1. تراجع التغطية الإعلامية للقضية
شهد الإعلام العربي تحوّلاً في اهتماماته نحو قضايا الترفيه والمجتمع والاستهلاك، مقابل تراجع ملحوظ في التغطية المهنية للقضية الفلسطينية، ما أفقدها الكثير من الزخم الشعبي.
2. التطبيع الإعلامي والرمزي
تمثّل ذلك في إنتاج مسلسلات وبرامج تمحو الرمزية العدوّة لإسرائيل أو تقدّمها بصور محايدة، وهو ما أدى إلى تفكيك المشاعر الجمعية المعادية للاحتلال في وجدان الجمهور العربي.
3. تشويه صورة الفلسطيني
روّجت بعض الحكومات روايات ترى الفلسطينيين ناكرين للجميل، أو سببًا للانقسام والصراع، وهي روايات ساعدت في تقليل التعاطف الشعبي العام.
رابعًا: الأسباب الدولية
1. الانحياز الأمريكي لإسرائيل
مارست الولايات المتحدة دورًا حاسمًا في حماية إسرائيل دبلوماسيًا، عبر استخدام الفيتو في مجلس الأمن، أو دعمها ماديًا وعسكريًا بلا شروط.
2. غياب العدالة في المنظمات الدولية
فشلت الأمم المتحدة وهيئاتها في تنفيذ قراراتها بشأن فلسطين، ما جعل العديد من الشعوب تفقد الأمل في جدوى التفاعل مع المنظمات الدولية بشأن القضية.
خامسًا: الأسباب الفكرية والدينية
1. الصراعات الطائفية في العالم العربي
أدت الحروب الأهلية والانقسامات المذهبية في بلدان مثل سوريا واليمن والعراق إلى تقهقر الأولوية الأخلاقية والسياسية للقضية الفلسطينية لدى كثير من الجماهير.
2. تفكيك الخطاب العقدي حول فلسطين
تم تفريغ القضية من مضمونها الديني المرتبط بالمقدسات، وخاصة القدس، في بعض الخطابات الرسمية أو الإعلامية، مما أضعف الشعور الديني لدى الجمهور تجاه القضية.
سادسًا: الأسباب النفسية والاجتماعية
1. الإرهاق الجمعي والتطبيع العاطفي
أسهم تكرار المجازر الإسرائيلية وفشل الرد العربي في إحداث "تطبيع عاطفي" لدى الجمهور العربي، حيث باتت المآسي اليومية في فلسطين تُستهلك إعلاميًا دون أن تخلق صدمة أو رد فعل فعلي.
2. فقدان الثقة بالقيادات
ضعف أداء القيادات الفلسطينية والعربية، وانغماس بعضهم في الفساد، أفقد الجمهور العربي الثقة في جدوى الدعم غير المشروط، ما أدى إلى شعور باللاجدوى.
الخاتمة
إن التنازل عن القضية الفلسطينية لم يكن قرارًا فرديًا أو لحظة عابرة، بل هو نتيجة مركبة لتفاعلات سياسية واقتصادية وثقافية ودينية متشابكة. غير أن جذوة القضية لا تزال مشتعلة في ضمير الشعوب، ويتجدد حضورها مع كل عدوان أو انتفاضة، مما يؤكد أن إحياءها لا يزال ممكنًا إذا توفرت الإرادة الشعبية والقيادات الصادقة والإعلام المهني الحر.
المراجع
زهير مبارك، القضية الفلسطينية في الخطاب العربي المعاصر، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2018.
عبد الوهاب المسيري، الصهيونية والنازية ونهاية التاريخ، دار الشروق، 2003.
تقارير الأمم المتحدة حول القضية الفلسطينية (UNISPAL).
تقارير مراكز دراسات عربية مثل المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.
تغطيات إعلامية حديثة حول اتفاقيات التطبيع (الجزيرة، العربي الجديد، وغيرها).