مرّت أكثر من ستمئة يوم على الحرب، أو لنقل: ستمئة يوم على الفضيحة.. ليست الفضيحة في عدد الشهداء، فهم شهداء العزة، ولا في ركام البيوت، فالبيوت تُبنى من جديد.. الفضيحة في صمت العالم، في التواطؤ باسم "مقتضيات الظروف الدولية"، في الدعم الغربي لمن جعل من الطفولة هدفًا مشروعًا، ومن المستشفى ثُكنةً مشروعة، ومن الحياة جريمة تستحق القصف.
ستمئة يوم، وغزة لم تُبدل، إنما كشفت مَن تبَدَّل، ومَن تبخر، ومن باع نفسه بثمن بخسٍ، أو تطلعٍ إلى صورة في صحيفة أجنبية تُمسح بها شبابيك القصور.
وإننا إن أردنا أن نتعلم من غزة، فلا بد أن نقرأها لا كخبر في نشرات تُبدأ بعواجل القتل والقصف فقط، بل كفكرة! ولا كأرض محاصرة فقط، بل كقيمة مطاردة. فغزّة ليست جغرافيا، إنما هي اختبار أخلاقي يومي، ومرآة تُري الناظر من يكون، بلا زيف ولا فلاتر ولا مكياج.
هل الحكمة تعني دفن المبادئ في التراب؟ وهل السياسة لا تمارَس إلا في سوق التنازلات؟ الحياد في الحرب بين الحق والباطل هو انحياز للباطل، وغزة وضعت الجميع أمام مرآة الحقيقة: إما أن تكون مع الحق، أو أن تكون جزءًا من الجريمة
القيمة لا تموت وإن مات أهلها
غزة، منذ ستمئة يوم وأكثر تُقصف وتُذبح وتُجوّع.. لكن هل ماتت؟ هل تخلت عن الفكرة؟ لا، بل ازدادت التصاقًا بها! الطفل الذي قُصف منزله في جباليا وبيت حانون وبيت لاهيا، عاد يحمل دفتره المدرسي بين الأنقاض ليكون هو العنوان الأبرز والدرس الدامغ!
آلاء النجار -الطبيبة والأم الفلسطينية التي فقدت تسعةً من أكبادها بعد أن حملتهم 81 شهرًا، وظلت واقفةً- تقول بإيمان وتسليم: "هم أحياء عند ربهم يرزقون"! هذه ليست عبارة ارتجالية.. هذه مواقف.
الإنسان يُقاس بموقفه، لا بموقعه! وغزة، وإن ضاقت بها الأرض، وسُدّت في وجهها المنافذ، فإنّها اتسعت بالمعنى.. إنها تُعلّمنا أن من يحمل المعنى لا يُهزم، حتى لو خسر كل شيء.
الصمت خيانة لا حياد
ما الفرق بين صمت الجبان وصمت "المحايد"؟ لا شيء.. كلاهما يقف على جثة الحق ويتأمل.
الغرب، الذي ادعى أنه حامي حقوق الإنسان، صار يُبرّر قتل الأطفال بـ"حق الدفاع عن النفس"! كأن الإنسان هناك له كرامة، وهنا عليه أن يتعلم الموت صامتًا.
أما العرب، فهؤلاء قصة أخرى.. لم يكتفِ بعضهم بالصمت، إنما ذهبوا إلى التطبيع، بل إلى التبرير، بل إلى لوم الضحية. والعجيب أنهم يدّعون الحكمة!
وهل الحكمة تعني دفن المبادئ في التراب؟ وهل السياسة لا تمارَس إلا في سوق التنازلات؟ الحياد في الحرب بين الحق والباطل هو انحياز للباطل، وغزة وضعت الجميع أمام مرآة الحقيقة: إما أن تكون مع الحق، أو أن تكون جزءًا من الجريمة.
أزيد من 600 يوم مرت، وغزة ما زالت واقفة ثابتة تشد على الجرح، لا لأنه لا وجع فيها، بل لأن الفكرة التي تسكنها أقوى من الألم!
البطولة في الثبات
أكبر معجزة أن تبقى غزة ثابتة؛ فبعد كل هذا الخراب ما زالت تداوي جراحها، وتدفن شهداءها! غزة تُعلّمنا أن البطولة ليست صورة على منبر، بل هي ثبات في الزلزال.. هي ليست حربًا تُخاض بالسلاح فقط، هي بصبر الأم، بإصرار المدرّس، وشجاعة المسعف الذي يدرك أن طريقه إلى الضحايا مفخخ بألف قذيفة.. لكنه يكمل!
إن غزّة ليست مأساة، بل محكًّا.. وإن المتابع لمجريات الأحداث يدرك أنه أمام اختبار عظيم: إما أن نثبت على المعنى، أو نُدفن في مزابل التاريخ؛ فالأمة التي لا تنهض لغزة، لا تستحق أن تحكم نفسها.
أزيد من 600 يوم مرت، وغزة ما زالت واقفة ثابتة تشد على الجرح، لا لأنه لا وجع فيها، بل لأن الفكرة التي تسكنها أقوى من الألم!
هذه هي غزة التي علّمتنا أن الإنسان ليس بمقدار ما يملك، بل بمقدار ما لا يتنازل عنه.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.