

الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين قائد الغر المجلين نبينا وحبيبنا محمد وعلى آله وصحبة أجمعين لاسيما خلفائة الراشدين أبا بكر وعمر وعثمان وعلي
ومـن سـار على نهجهم إلى يـوم الديــن..
#تاريخ_إسلامي
…
¦₪¦╣ أسوأ الحروب على الإطلاق ╠¦₪¦
أتدرون ما أسوأ حربٍ على الإطلاق؟!
أن يلتقي "النبلاء" مع "نبلاء آخرين" في صدامٍ قد لا ينتهي!
لقد تحدَّثنا في مقال سابق عن مفهوم "الحرب النبيلة"، وقلنا: إنَّه إذا تعدَّى ظالمٌ على أحد المشتركات الإنسانيَّة نتيجة نوازعه "الشريرة" وطبيعته الأنانيَّة، فإنَّ الطرف المعتدى عليه من حقِّه أن يُحارب، وتُصبح حربه في هذه الحالة حربًا نبيلة.. لكن ماذا لو كان الطرفان يبحثان عن العدل وعن الحق، لكن "ظنَّ" كلُّ طرفٍ منهما أنَّ غيره قد ظلمه وتعدَّى عليه فقام يُقاتل؟
إنَّه أحيانًا -ليست بالقليلة- يكون الطرفان نبيلين، لكن تحدث الحرب، بل وقد تكون حربًا شديدة يسقط فيها صرعى كثر، ويعتقد كلُّ فريقٍ أنَّ قتلاه شهداء!
كيف يحدث هذا؟!
يُمكن أن يحدث لأسبابٍ كثيرة..
يُمكن أن يكون هناك اختلافٌ في "الاجتهاد"، فهذا فريقٌ مصلحٌ يُريد أن يُصلح إلى الحقِّ فاجتهد اجتهادًا ما، وهذا فريقٌ آخر -قد يكون على درجة الصلاح نفسها- اجتهد لكي يصل إلى الحقِّ في القضيَّة نفسها فسلك طريقًا معاكسًا! وقد يحدث الصدام بين الفريقين ليصل كلُّ واحدٍ منهما إلى الحقِّ الذي يُريد، وكلٌّ منهما يرى أنَّ حربه نبيلة، ويعجب للفريق الآخر كيف لا يتبيَّن الهدى!
هذا يحدث كثيرًا، وإن شئتم فراجعوا قصَّة الصدام بين فريقين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كلٌّ منهما كان يرى نفسه على الحقِّ[1]، وكلٌّ منهما لا يرى بأسًا مطلقًا في أخلاق الفريق الآخر، ولكن هذا لم يمنع من الصدام!
وقد يكون السبب في الصدام بين النبلاء هو سوء الفهم لحدثٍ ما؛ فقد لا يقصد طرفٌ مطلقًا أن يجرح مشاعر الآخر، أو يُهين كرامته، أو يتعدَّى على مشتركاته الإنسانيَّة، لكن سوء التأويل لبعض الأحداث العاديَّة والتضخيم لبعض الأحداث اليسيرة قد يكون وراء صدامٍ كبير.
وقد يكون السبب هو دسُّ الأشرار لمكيدةٍ تُوقِع الصدام بين نبيلين، وكثيرًا ما يحدث هذا في التاريخ والواقع، ولعلَّ مراجعة قصَّة "شاس بن قيس" وكيف فرَّق بين الأوس والخزرج، وكاد يُوقع بينهما صدامًا مؤلمـًا.. لعلَّ مراجعة هذه القصَّة كفيلٌ بإيضاح المعنى[2].
وقد يكون السبب معلومةً خاطئةً وصلت إلى أحد الفريقين، ولم يُحسن التثبُّت منها، فيهبُّ طرفٌ نبيلٌ للصدام مع طرفٍ نبيلٍ آخر، لهذه الشائعة الكاذبة، ولهذا يقول الله عز وجل في كتابه: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ( [الحجرات].
وقد يكون السبب جهل بالدين أو العقيدة، فيعتقد نبيل أنَّ دينه يأمره بالصدام مع المخالفين، ويُئَوِّل الأحكام تأويلًا خاطئًا؛ ومِنْ ثَمَّ يحمل سلاحه ويُقاتل قومًا قد يكونون في غاية النبل، أو على الأقل ليسوا أشرارًا، وهو بذلك يتقرَّب إلى الله، ويبحث عن الحق، ويُدافع عنه.
بل إنَّ هذه الأنواع من الصدام كثيرًا ما تحدث في الأُمَّة الواحدة بين نبلاء يُريدون جميعًا غايةً واحدة، ولكنَّهم اختلفوا في الوسائل! ولعلَّ من أبرز الأمثلة على ذلك ما نُشاهده كثيرًا من صراعٍ بين التيَّارات الإسلاميَّة المختلفة في داخل الأُمَّة الإسلاميَّة بين جماعاتٍ من النبلاء، كلُّهم يبحث عن الخير، وكلُّهم يُريد نشر الدين، وكلُّهم يبغي إرضاء الله، ولكن في ظلِّ سعيهم وراء هذه المعاني "النبيلة" يصطدمون بغيرهم من النبلاء!
كيف الخروج من هذه المآزق؟
إنَّني أرى أنَّه لو كانت كلُّ هذه الأطراف نبيلة ونواياها حسنة، فإنَّ حلَّ القضيَّة يكون في "الحوار الهادئ"، وفي هذا الحوار سيبحث المتحاورون أوَّل ما يبحثون عن المشتركات الإنسانيَّة الكثيرة التي تجمعهم، وذلك قبل الحديث عن نقاط الاختلاف، وعند رؤية هذا الاشتراك الكبير مع المتحاورين في أمورٍ لا حصر لها ستخفُّ وتيرة الصدام جدًّا، وفوق ذلك فإنَّنا في هذا "الحوار الهادئ" سنعرف المعلومة الصحيحة، وسنفهم التأويل السليم، وسنُبعد الوسطاء الأشرار؛ لنسمع القضيَّة من أصحابها، ونفهم الحجَّة من المدافعين عنها.
عندئذٍ يُمكن أن يقف الصدام بين النبلاء!
المصدر:
كتاب المشترك الإنساني.. نظرية جديدة للتقارب بين الشعوب، للدكتور راغب السرجاني.
[1] أقصد الفتنة التي دارت بعد قتل عثمان بن عفان رضي الله عنه، وانقسم فيها الصحابة إلى فريقين كبيرين، والقصَّة مشهورة.
[2] ابن هشام: السيرة النبوية 3/94.