السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وتحيةً مفعمةً بالمودّة والتقدير لكلّ الأعضاء الكرام الذين ينسجون في هذا المنتدى العزيز خيوط الأفكار، ويضيئون زوايا الوعي بمعارفهم وتجاربهم. يا رفاق الكلمة الصادقة، ما أبهى هذا اللقاء الذي يجمعنا على مائدة الفكر، حيث تتعانقُ الإيجابيّةُ مع الإرادة، ويرتقي الإنسان حين يكتشف ذاته البهيّة ويتعلم كيف يقودها نحو حياةٍ تُزهِرُ بالمعنى والجدوى. إنّ الحديث عن «ذاتك الإيجابيّة لقيادة الحياة» ليس زخرفًا لغويًّا ولا بوحًا عابرًا، بل هو دعوةٌ أصيلةٌ للغوص في أعماق النفس، لاكتشاف القدرة الكامنة التي أودعها الخالق في كلّ واحدٍ منّا، قدرةٍ تعني أنّك لست مجرّد عابرٍ على هامش التاريخ، بل بوصلةٌ ناطقةٌ تمدّ الحياةَ باتجاهٍ واضحٍ حين تُمسِكُها بيدٍ واثقةٍ، وتضعها في قلب مسارٍ راسخٍ نحو السكينة والتأثير.
أيها الأحبّة، لعلّكم توافقونني أنّ الإنسان الذي يعتنق الإيجابيّة لا يلبس قناعًا زائفًا ولا يختبئ خلف شعاراتٍ برّاقة؛ إنّما هو إنسانٌ يُصارحُ نفسه بأخطائها قبل أن يُحاسبَ الآخرين، يرى في كلّ عثرةٍ درسًا، وفي كلّ إخفاقٍ مدخلًا إلى بصيرةٍ أصفى. الإيجابيّة ليست هروبًا من الواقع، بل مجابهةً له بقلبٍ شجاعٍ يُدرِكُ أنّ الفشل حدثٌ زمنيّ، بينما العزمَ حالةٌ روحيّةٌ متجدّدة. أنتَ حين تُفعِّل تلك الطاقة داخلك، تُدرك أنّ القيادةَ لا تبدأ عند المنصب ولا تنتهي عند شهادةٍ تُعلَّقُ على الجدار؛ القيادةُ انبعاثٌ صامتٌ يبدأ من نظرةِ رضًا في عينيك، ثم يمتدّ إلى تصرّفٍ مسؤولٍ، ثمّ يتحوّل إلى أثرٍ يراه الناسُ فيك، فيستلهمون منه بذرةَ تغييرٍ لأرواحهم.
يا إخوتي، إنّ ذاتك الإيجابيّة لا تُستَعرَضُ في أوقاتِ الرخاء فحسب، بل تزدادُ إشعاعًا حين تُحاط بالتحديات. في لحظاتِ الضيق تكتشف أنّ النفسَ التي تدرّبت على التفاؤل تُخرجُ كنوزَها المدفونة: صبرًا جميلًا لا يخذل، وثقةً بالله لا تتزعزع، ورؤيةً ثاقبةً تلتقط الفرصَ وسطَ الرماد. وحين يتعاظمُ الألمُ ويضيقُ الأفق، فإنّك تؤكدُ هُويّتَك القياديّة، لأنّك ترفضُ أن تكون صدىً لما يحدث حولك، بل تُصِرُّ أن تكون صوتًا يُعيدُ تشكيلَ الأحداث. هنا يكمنُ سرّ القيادة الذاتية: أن تُمسِكَ بزمام أفكارك، فتختار الكلمةَ الرحيمةَ بدل كلمةِ اليأس، وتختار الفعلَ المُثمِرَ بدل ردّ الفعلِ الغاضب، وتختارُ أن تُصبحَ جزءًا من الحلِّ لا جزءًا من المشكلة.
لقد علّمَتنا التجاربُ الكبرى أنّ الإنسانَ لا يحتاجُ إلى ظروفٍ مثاليّةٍ ليُبدِعَ، بل يحتاجُ إلى عزمٍ مثاليٍّ ليصنع ظروفَه. إنّ من أبرز ملامح الذات الإيجابيّة إدراكها لقيمتها الفريدة؛ فهي لا تُقارن نفسها إلا بما يمكن أن تصبحه، ولا تُبدّدُ طاقتها في متاهات الحسد أو جلد الذات، بل تُكرّس انتباهها لتطوير مهارةٍ، لتعميقِ معرفةٍ، لتوسيع دائرةِ العطاء. من هنا يغدو النجاحُ نتيجةً طبيعيّةً، لأنّه يُبنى على أرضيّةِ الشغفِ والمنهجيةِ والالتزام. والالتزامُ يا أصدقائي ليس حبلًا يشدُّك إلى رتابةٍ خانقة، بل جسرًا يعبُرُ بك من فوضى الرغباتِ المتناثرة إلى وحدةِ الهدفِ الواضح، فتتناغمُ خطواتُك مع رؤيتك الأسمى.
وإذا تساءل سائلٌ: كيف نمضي إلى تلك الدرجة من الإيجابيّة؟ أقول: إبدأ من لغةِ الحوار الداخليّ. إنّ الكلمةَ التي تُخاطِبُ بها نفسك تصبحُ المِقداحَ الذي يشتعلُ به وميضُ العزيمة. خاطِب ذاتك بحبّ، بدعاءٍ صادقٍ، بتقديرٍ للجهود الصغيرة قبل إنجازِ القمم العالية. ازرَع في ذاكرتك صورَ الانتصارات السابقة، فهي شواهدُ حيّةٌ تُذكِّرُك أنّ القدرة ممكنةٌ، مهما تقافزتِ العقبات. ثمّ انظرْ إلى عاداتك اليوميّة؛ فالعاداتُ يا كرامُ هي جيشُك الصامتُ الذي يحاربُ لصالحك أو ضدّك. درّب جسدك على الانضباط، درّب فكرك على القراءة الواعية، درّب روحك على التأمّل والشكر. وحين تَجمَع هذا الثالوث المتناغم، ستحصدُ راحةَ العقل، وليونةَ الجسد، وطمأنينةَ القلب.
ليس سرًّا أن العقلَ البشريّ يُصوّبُ اهتمامَه على ما يتكرّر. فإذا كرّستَ دقائقَ فجرِك لتأمّلِ النورِ المتسلّل من خلف ستائر الليل، ربيتَ في داخلك يقينًا بأنّ فجرًا داخليًّا متجدّدًا قادرٌ أن يُلقي بأضواءِ الوضوحِ على أدقّ تفاصيل حياتك. وإن قطّرتَ على مسامعك عباراتِ الامتنانِ قبل نومك، أعددتَ ذاكرتك لتُعيدَ ترتيبَ الأحداثِ بحيثُ تبرزُ الجوانبَ المشرقةَ فيه، فتستيقظُ وفي قلبك دفقُ صفاءٍ يقيكَ سمومَ التشاؤم. وهكذا يقع سرُّ القيادة الذاتية: لا في قفزاتٍ استعراضيةٍ، بل في تفاعلاتٍ يوميّةٍ صغيرةٍ تتراكمُ حتى تُعيد تشكيلَ وعيك.
وإنْ خُيِّرتُ بين صفةٍ واحدةٍ أضعها على رأس هرمِ الإيجابيّة، لاخترتُ «التعاطف». التعاطفُ مع الذاتِ أولًا، بأنْ تغفرَ خطأك وتمنحَ نفسك فرصةً ثانيةً وثالثةً ورابعة، ثم التعاطفُ مع الناسِ الذين يسرِقُ منهم الصخبُ اليوميُّ تلك اللمسةَ الحانيةَ التي تروي عطشَ القلوبِ للتفهّم. ما أكثر ما تخمدُ الأفكارُ الخلّاقةُ لأنّ صاحبها لم يجدْ عينًا ترى جوهره، ولا أذنًا تُصغي لنبضِ خوفه، ولا يدًا تُشجّعه على مواصلة الطريق. فإذا مددْتَ جسورَ التعاطفِ، صنعتَ حاضنةً آمنةً للأحلام، ونسجتَ خيوطًا من الثقةِ المتبادلةِ تؤسّسُ لبيئةٍ يُزهرُ فيها الإبداعُ ويتنفّسُ فيها الأمل.
ثم يأتي دورُ المسؤولية، تلك الكلمةُ الثقيلةُ على من لم يدرّب نفسه، العذبةُ على من أدرك أنّها تاجٌ على رأس القائد. المسؤوليةُ تعني أن تُشيرَ إلى نفسك كلّما حدث خلل، وأن تُشيرَ إلى الفريقِ حين يحدث إنجاز، فتُدرِكُ أنّ القيادة ليست بحثًا عن مديحٍ، بل ترصّدٌ دقيقٌ للنتائج: تُصلحُ ما تَكسَّر، وتُقوّي ما صحَّ، وتُضيفُ ما غابت عنه البصيرة. وحين تتّسعُ رؤيتك للكلّ، تعرفُ أنّ الإنسانَ الإيجابيَّ لا يتصادمُ مع الواقع، بل يحتضنهُ ليعيدَ صوغَه؛ يلتقطُ الحجارةَ التي اعترضت طريقه، فيبني منها سلّمًا يرتقي به.
ولأنّ أرواحَنا تتغذّى على العطاء كما تتغذّى أجسادُنا على الطعام، فإنّ ذاتك الإيجابيّة تجدُ خلاصَها الحقيقيّ حين تجعلُ من خبرتِها قبسًا يستضيء به الآخرون. فماذا لو شاركتَ طالبًا يافعًا قصةَ كفاحك؟ ماذا لو أضاءَت شهادتُك العفويّةُ طريقًا مظلمًا أمام صديقٍ أثقله اليأس؟ أليس ذلك هو القيادةُ عَيْنها، إذ تُعيدُ توزيعَ الوهجِ الذي أضاءَ روحك؟ إنّ القائدَ الحقيقيَّ يُدرِكُ أنّ عافيةَ المجتمعِ من عافيةِ أفراده، وأنّ رفعَ الآخرين لا يحجبُ ضوءه، بل يضاعفهُ.
ومع كلّ ما سبق، يبقى الإيمانُ بالله هو الجذرَ العميقَ الذي تسقيه كلّ بادرةٍ إيجابيّةٍ فتثمرُ طمأنينةً راسخةً لا تُقهر. إذ حين تُوقِنُ أنّ الله اصطفاك بنعمةِ الحياة، ترى في كلّ يومٍ أمانةً تستحقُّ أن تُؤدّى، وفي كلّ لحظةٍ فرصةً جديدةً تقتربُ فيها من غايتك الأسمى. وهذا اليقينُ ليس سذاجةً، بل هو إدراكٌ منطقيٌّ بأنّ الكونَ كلّه تسيّره حكمةٌ مطلقةٌ لا تُخطئ؛ فكيف لا تطمئنّ روحك، وكيف لا تشرقُ ذاتك بالإيجابيّة، وأنت تعلمُ أن ربّك معك أينما كنت؟
أيها الرفاق، لعلّ أشدَّ ما يحولُ بين الإنسانِ وبين ذاته الإيجابيّة هو خوفُه من الخطأ. لكنّ الحياةَ ليست معملًا معقّمًا تخشى فيه على أدقّ الأدوات؛ إنّها ساحةُ اختبارٍ رحبةٌ، تُكرِّمُ المجتهدَ وإن تعثّر، وتمنحُ المُقبلَ على التعلّمِ مزيدًا من الفرص. إنّ الخطأ ليس عارًا، بل مؤشرًا على حركةٍ حيّةٍ تفتّش عن الصواب. فمن أرادَ قيادةَ الحياة، فليجرؤْ على التحرّر من شبحِ المثاليّةِ الجامدة، وليحضنْ عثراتِه بجرأةِ المُصمِّم على الوصول. ومتى فعل، استحالَ الخطأُ لَبِنةً تُضافُ إلى صرح الحكمة.
ثم إنّ للزمانِ دورته، وللأحداثِ تقلّبها؛ وقد يجيء زمنٌ تبدو فيه الرحلةُ أطولَ من الصبر، فينطفئُ المصباحُ الذي لطالما أضاءَ الطريق. في تلك اللحظةِ المحفوفةِ بالترقّب، استحضرْ يقينَك القديم: لقد كان لديك نورٌ لأنّ بداخلك زيتًا؛ فإذا غابَ اللهيبُ هنيهةً، فجدّد مسيرةَ التزود، واستجمع شعلتك مرةً أخرى. وتذكرْ أنّ الأثرَ الكبيرَ لا يشترطُ ضجيجَ الإعلام ولا تصفيقَ الجماهير، بل يكفي أن ينبثقَ من قلبٍ صادقٍ، فتجعلهُ رحيمًا حين يُوجِّه، صلبًا حين يُقرّر، حكيمًا حين يُراجِع، شاكرًا حين يقطفُ ثمرةَ الصمود.
يا إخوتي الكرام، إنّ ذاتك الإيجابيّة طاقةٌ لا تُستنزَف إذا عرفتَ سرَّ تجديدها: صِلَةُ الخالق، وصُحبةُ الأخيار، وطلبُ العلم، وممارسةُ الشغف. بهذه الأربعةِ تشحذُ ذهنك، وتنعشُ روحك، وتقوّي جسدك، وتسمو أخلاقك، فتغدو القيادةُ نتيجةً حتميّةً لا ادّعاء. وحين تُعايشُ هذا النهج، تكتشفُ أنّ السعادةَ الحقيقيةَ ليست مَحطَّةً نبلغها، بل طريقةُ سفرٍ نتّبعها؛ وأنّ وجودَك في هذه الدنيا لن يُقاسَ بطول حياتِك، بل بمدى الحياةِ التي منحتَها لأيامك ولأيامِ الآخرين.
وقبل أن أختتمَ هذه السطور، أجدّدُ امتناني لإدارة هذا الموقع المبارك، التي وفَّرت منصةً رحبةً نتحاورُ فيها بقلوبٍ منفتحةٍ وعقولٍ متعانقةٍ، كما أتوجه بالشكر الجزيل لكلّ أخٍ كريمٍ يَسقى هذا الحقلَ المعرفيَّ من خبرته وفكره وصبره. إنّكم تصنعون مشهدًا فريدًا تتلاقحُ فيه الأفكار، وتتشابكُ فيه الأيدي لبناءِ جسرٍ نحو أفقٍ أرحب من الفهمِ والإلهام.
تحياتي / إحساس غالي
#قيادة_الذات #الإيجابية_أسلوب_حياة #قوة_العزيمة #نهج_التفاؤل
#تجديد_الطاقة #فن_المسؤولية #تعاطف_وبناء
#إرادة #شغف