السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، تحية طيبة وسلاماً مباركاً لأعضاء هذا الصرح المبارك، للأخوة الأعزاء الأفاضل، الذين نثّروا صفحات النقاش بحضورهم العذب وأفكارهم النيرة. أما بعد، فإنني أطرح بين أيديكم كلمات تسعى إلى أن تغرس في نفوسنا شعلة الأمل وتوقظ في ضمائرنا همم العزيمة، مستشهداً بقول الحق تعالى: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً﴾، مبيناً من خلال تأمّلات عذبة في روح الإيمان والقدرة على الصمود أن اليأس كلمة لا تتسرب إلى قلب مؤمن، ولا تؤوي إلى منزل من أوطان الإرادة. لقد راعني أن أستلهم من تجارب الإنسانية، ومن قصص الصابرين، ومن حكايات الذين واجهوا الظلام وأضاءوه بنور الإرادة؛ فكتبت هذه السطور رغبةً في أن تكون رداءً للقلوب المثقلة وهمّاً، وعزاءً لمن دخل مرافئ الحزن، فانقطع قلبه عن شطّ الرجاء. فلنعِدْ النظر إلى الحياة، ولنترك لليأس أمكنتهن في أرواحنا، ولنسبح مع أمواج الأمل حتى نرسو على شاطئ الإصرار.

حين تمتدّ بنا الحياة إلى دهاليز الألم، ويبدو الأفق مسدوداً أمام الساعين، تزداد حاجة الإنسان إلى يقظة الإرادة وإشراقة الأمل، فالخيبة التي تأتي مع تراكم التحديات قد تُنْسِي القلب من خيط الحياة ذاته، فتثقل عليه هموم الماضي وتُعَمّيه عن رؤية غدٍ واعد. ولكننا إذا تأملنا سير الأجيال السابقة، وجدناهم، رغم شظف العيش وقسوة القضاء، ينهضون من ركام المصائب منتصبين، يحفرون طرقاً جديدة إلى الحياة ويزرعون في جراحهم بساتين الحياة. ولعل من أبرز الأمثلة في مسيرتنا الإنسانّية قصة أبو تراب، الرجل الذي بلغ عمره مئة عام تقريباً، عانى من أمراض عضال كانت تقربه من عتبة الرحيل، ومع ذلك ظل متحفزاً للحياة، يبشر الناس بالخير، ويبث فيهم روح الثقة بالله، حتى توفاه الله وقد تجاوز مئته من الناس الذين استلهموا من صبره وإيمانه وسيلة نهضة. فلا تقاس الحياة بصعوبة المواقف، بل تقاس بقوة الإنسان في استيعاب هذه الصعوبات وتحويلها إلى دعائم للبناء. ولا ينال اليأس موطئ قدم ما دام في صدر الإنسان ذرة إيمان.

ولئن كان الإنسان يشكو ضيق ذات اليد في بعض الأحيان، فإنما عليه أن يتذكر أن محن الدنيا لا تستمر إلى الأبد، وأن أجمل الفجرات تبزغ بعد ظلمات الليل الحالكة. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له». فالإيمان الحق يقلب الغم إلى فرح، والضيق إلى رحابة، والضغط إلى الرفعة. وإذا ما تغلغل اليأس في قلب الإنسان، فعليه أن يتذكر أن في كل محنة منحة، وفي كل ضيق فرصة للتغيير، وفي كل سقوط فرصة للنهوض. فلنسعَ إلى أن نوقد شمعة الأمل في قلوبنا ونذيق أنفسنا حلاوة الصبر والفهم العميق لمنح الله.

إن اليأس كلمة تجرّ معها مشاكل عظيمة؛ فهو يلسع القلب بشظايا العجز، ويجعله يختار السلبية بدلاً من الإبداع، والاستسلام بدلاً من الجهاد. فإذا سرى اليأس في النفوس، أجهضت الأرواح جناحيها، ولُغّت ألسنتها عن ذكر الحافظ إذ الغرق. وقد رأينا في مجتمعات كثيرة أن اليأس إنما يبدأ حين يقرر أصحاب القلوب الهزيلة أن المسافات بعيدة، وأن التحديات لا تُجتاز، وأن من تخلّف عن شاطىء النجاح قد خانته الفرصة إلى الأبد. ولكن الحقيقة أن الفرصة لا تموت ما دامت الحياة متقدة، وأن الثبات يولّد فرصاً جديدة، وأن الانكسار الطبيعي في بعض اللحظات لا يعني النهاية، بل يعني بداية جديدة إذا ما ترسّخ اليقين في النفس بأن الرحمة تأتي بعد الصبر. ولذلك فإننا مطالبون بأن نبني علاقاتنا مع اليأس على فكرة واحدة: لا مكان لليأس في الدين الإسلامي، ولا حضن له عند المسلم الحقيقي الذي يقف شامخاً بوعد الله.

إننا نعيش في زمنٍ تتراكم فيه الهموم، وتتلاحق فيه المحن، فالأزمات الاقتصادية، وسوء الأحوال الاجتماعية، ومواجهة البطالة، وضغوطات الحياة المعاصرة، كلها عوامل قد تدفع بعض النفوس المرهفة إلى الانهزام، والتفريط في أحلامها. وهذا ما لا يليق بخلق المؤمنين الذين جعل الله اليأس عدواً لهم فقال: ﴿وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ﴾، لما في ذلك من قدرة روحية تجعل النفس تتعالى فوق الأهوال والأزمات. وفي هذه الحقبة التي تشهد تنافساً شديداً، وابتكارات تتعاقب كل يوم، فإن النجاح أصبح حكراً على من يتسلح بالعزيمة وينهض حين تضعف قوته، ويجد في نفسه نوراً يضيء له طريقه إذا انطفأت أضواء الأمل في الخارج. فلتكن مقاومة اليأس في النفوس منهجاً لا نتخلى عنه، ولتكن صرختنا في وجه المصاعب: لا لليأس والاستسلام.

ومن رحمة الله بنا أنه قصّر علينا الطريق بإعطائنا مصدراً لا ينضب للأمل وهو القرآن الكريم، فقد هدانا فيه إلى الثبات والنهوض: ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾. والأجر العظيم الذي دلّت عليه هذه الآية يستدعي المسلم أن لا ييأس من رحمة الله مهما اشتدت عليه الهموم. وإن تأملنا قصص الأنبياء في القرآن، وجدناها نماذج لا تكلُّ من الصبر، لا تنكسر أمام الصعاب، ولا تبحث عن ملاذ إلا في صنعة العمل الصالح والاعتماد على الرّب سبحانه. فتأملوا يعقوب عليه السلام حين ابتلعه الحزن على ولده يوسف عليه السلام، فظل يناديه: ﴿فَصَبْراً جَمِيلًا﴾، وهكذا في كل مرة نفشل في ابتكار فكرة، أو نواجه رفضاً من الناس، أو نمتنع عن تحقيق هدف؛ ينبغي أن يكون منا الصبر الجميل، ألا نبكي على أطلال ما فات، بل نهتف بثقة بأن القادم أفضل، وبأن هذه المحنة يمكن أن تكون بداية تحوّل إيجابي.

ولكي يزول اليأس من القلوب، علينا أن نرتكز على عدة ركائز مهمة: أولاً: المعرفة بأن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، فإذا أحسنت نيتك وصدقت العزيمة، فإن الطريق إلى الله ممهّد، ولا بد للعزّ من أثر في النفس قبل أن يثمر في الواقع. ثانياً: التضامن الاجتماعي؛ فحين نتكاتف كأفراد داخل المجتمع، ندعم بعضنا بعضاً بمدّ يد العون، ونشارك قصص الصمود التي تُشكّل بوصلة لمن يتيه في دروب الحياة، فإن ذلك يقوّي النواة الصلبة للأمل. ثالثاً: تنمية الذات بالعلم والعمل؛ فكلما تزيد رصيدنا من المهارات والخبرات تزداد قدرتنا على تحدي المواقف الصعبة. ورابعاً: اللجوء إلى الدعاء والذكر؛ فقد كان السلف يجلسون في لحظات اليأس على أبواب المساجد، يبثون شكواهم إلى الله في دعاء خاشع، فيخرجون منها وقد انقشع الظلام عن قلوبهم بفضل الإيمان. وفي هذا يقول ابن القيم رحمه الله في كتابه “مدارج السالكين”: “الدعاء وقود القلوب وفلاحة الجوارح ومفتاح خزائن السماء”، فمتى ما أحسست بانكسار، توجّه إلى ربك بخشوع، وأعطه قلبك، فإن لذكرك في الظلام وقعاً ساحراً.

لا أدّعي أن الطريق خالٍ من التحديات؛ فمن الطبيعي أن تصادفنا خوارات نفسية، وقد نشعر يوماً بأن الجبال عالية لا تُنتزع، ولكن متى ما صلّبنا عزائمنا، وأيقنّا أن النور وراء الغيمات، فإننا نستطيع أن نتجاوز المحن، ونصنع من أزمتنا منطلقاً جديداً. وفي هذا الصدد، كنت أقرأ عن رحلة “توماس إديسون” مع اختراع المصباح الكهربائي؛ فقد أخفق آلاف المرات قبل أن ينجح. وعندما سأله أحدهم: “كيف تشعر تجاه ألف فشل؟”، أجاب: “لم أفشل ألف مرة، إنما اكتشفت ألف طريقة لا تعمل”. هنا يكمن سر العزيمة: ألا ننظر إلى الفشل على أنه نهاية، بل خطوة نحو النجاح. ونجد في رحلاتنا العلمية ومهامنا اليومية درساً بليغاً: عندما تتوقف عن المحاولة، فتلك هي نهاية الأمل، أما إن استمريت في المحاولة رغم العثرات، فإن اليأس لا يجد موطئ قدم في قلبك.

إننا في لحظات الضعف قد نميل إلى المقارنة بالآخرين، ونرى بعضهم قد حقق ما نطمح إليه بنصف جهدنا، فيملأ الحسد قلوبنا ويบعث فينا رائحة الهزيمة. ولكن واقع الحياة يقول لنا إن لكل إنسان خصائصه وظروفه ومواصفاته الفريدة، ولذا لا يكون حكماً على النجاح للآخرين معياراً مطلقاً لقياس قدراتنا. فقلّص من مساحة المقارنات في ذهنك، وتوسّع في دائرة العمل على ذاتك. افعل أكثر مما فعله أولئك في وظيفتك وعلمك وعبادتك، وشاهد كيف يتلاشى اليأس أمام طوفان الإنتاجية والتفاؤل. إن التزامنا بالسعي والبذل هو الذي يثمر ما نشتهي، ومهما طال الطريق فلابد أن تصل إلى مبتغاك إذا اجتمعت لديك الإرادة والحافز.

ولكي نثبّت في أنفسنا قال الإمام الشافعي رحمه الله: “إذا أصابتَك مصيبةٌ فلا تقل: لو أني فعلتُ كذا لوقعت كذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل”. فهذا القول يحرر النفس من قيد الندم على ما فات، ويعيدها إلى حلبة الوجود بقوة جديدة ورؤية متجددة. فكيف لو ضمنا إلى ذلك أن نمضي قُدماً ببركة الاستعانة بالله واليقين بأن ما أصابنا لم يكن ليُخطئنا، وما أخطأنا لم يكن ليُصيبنا؟ فإن اليأس حينئذٍ لا مكان له في خاطر المؤمن الصابر، فتراه يخرج من معترك الهموم كالنسر الذي يحلّق فوق قمم الجبال، يراقب المنظر الشاسع ويبث نداء القوة في الأجيال.

ومن المهم أن نُعنى أيضاً بالبُعد الاجتماعي؛ فالأسرة والصديق والمجتمع هم مرآة لقلوبنا، فإذا رأينا حولنا من يتكلم بلغة اليأس يتكاثر فينا الضنك. لذلك علينا أن نختار الأصدقاء بعناية، ونتحالف مع من يؤمنون بالحياة وبإمكانات الإصلاح، وألا نصغي إلى الذين يزرعون بذور اليأس في النفوس، ممن يقفز فوق حدود الأمل، ويذرع أركانَ السلبية. وفي هذا الإطار، يُحكى عن أديب صيني كان ينشر في مدينته كل ليلة قصائد تشجيعية، يكتب على الجدران أبياتاً تحث الناس على الإقدام والتفاؤل، فانتشر الكلام بين الناس، وصار الشعب ينهض من رماد الضعف؛ لأن الكلمة الصادقة حين تخرج من قلب مؤمن لها تأثير نافع.

إن عملية تحرير النفس من أسر اليأس تبدأ من تغيير ذهنك وأفكارك، وليس بالضرورة تغيير الظروف؛ فقد تبقى الظروف كما هي، لكن رؤية الإنسان لها تتبدل، فيجد نفسه أقوى وأقدر على المواجهة. فينبغي علينا أن نتعلم مهارة إعادة تأطير الأفكار، بأن ننظر إلى الخسارة على أنها فرصة للتعلم، وإلى العثرة بوصفها حجر أساس لبناء مستقبل جديد. وعندما تتعلم ذلك، ستجد نفسك في دائرة من التحديات لا تثنيك عن الاستمرار، فستصبح المشاكل معابر للإنجاز، وسيكون كل يومٍ أمامك مشروعاً جديداً لتحقيق حلمك.

ثم إننا نحتاج إلى أن نمنح اللطف لأنفسنا؛ فقد ننشغل في ترديد الشعارات عن العزيمة، وننسى أن النفس عند الشدائد تريد عطفاً وتشجيعاً. لذا ينبغي علينا أن نمنح أنفسنا فسحة للراحة، وأن نعاملها كما نعاشر وصديق حبيب: بكثير من الحنان والتفهّم. فالأم عند بكاء طفلها لا تسفكه ببرودة، بل تلطف له بتمتمة المغنّاة وتبكي معه، ثم تدله على الخلاص من سبب البكاء. كذلك نحن: إذا بكينا حزنًا، فلنُشيِّع الحزن بكلمات تقبل مشاعرنا أولاً، ثم ننشد بعدها ألحان الأمل والشكر. وعندها تحمل النفس لواء الصمود، وتتعافى من آثار الغمّ.

وبينما يعاودنا شعورٌ بالخوف أو بالإحباط، علينا أن نتذكّر قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “كونوا دعائمَ للإسلام، وردّاً للدعوات الباطلة”، فهذا الحماس الديني يزيدنا ثقة في نفوسنا، ويجدّد في قلوبنا العزيمة. فعند المواجهة مع ما يثير فينا اليأس، نستدعي قول الصحابي الذي لامس روحه الشمس، وأيقن أن دعوته لها أثرٌ لا يخبو: “يا رب، إني أسألك أن تحميني من اليأس، وأن توفقني لصالح الأقوال والأفعال”، فتكون بذلك تذكيراً بأن الشدائد تأتي للاختبار، فلا تبتعد عن الله حتى يفتح لك باب الفتح والخروج.

كما أن المحيط الرقمي الذي نعيش فيه قد يكون مؤلماً، فالإعلام ينقل الأزمات لحظة بلحظة، فتتداعى الأخبار لدينا كمن يؤكل روحنا، فنصبح أكثر عرضة للوهن ونسمع صدى اليأس يتردد في أعماقنا. ولذا فمن الحكمة أن نضبط على أنفسنا ضوابط استهلاك الأخبار والمعلومات، نختار المصادر الموثوقة، ونقلل من متابعة ما لا تنفعنا معرفته. فالأخبار السلبية المتواصلة قد تبدّد طاقتنا وتقتلع منّا جذور الأمل. فلتكن ساعاتنا محدودة في النظر إلى الوسائل الإعلامية، ولنملأها بقراءة كتب الأمل وتنمية القدرات الذاتية.

وعندما يُخيّم علينا شعورٌ بالقلق أو الهلع، فإنه جدير بنا أن نوازن بين المشاعر والعقل؛ فقد قالوا قديماً: لا تبك إن رُميت بحجر، ولكن ابك إن رماك الناس بالزوق. ففي مقابل أي موقف تعسّف فيه الناقدون في إطلاق الأحكام، علينا أن نأتي بقرارٍ احترافيٍ متزن، ونصغي لصوت مهندس الإرادة داخلنا، الذي يقول: لن أخضع لسطوة الانتقادات الموجعة، بل أعمل على تحسين نقاط قوتي، وعدم الانشغال بما لا يضيف لرسالتي إلا الضوضاء. وهكذا، سنصنع بيئة داخلية متوازنة تستطيع الصمود أمام انتفاضة اليأس.

إن الإحباط قد ينبع أيضاً من تعثّر العلاقات الاجتماعية، من خلافات عائلية، أو من صراع مهني. وهنا يجب أن نسترشد بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً». فعندما تشعر بالوحدة والوهن، ابتدِ بإصلاح علاقتك بمن حولك؛ تواصل مع صديق قديم، اتصل بأخ ينقطع عنه حديثك، قدّم مساعدة لمن يحتاج، فانشد لك بذلك وعاءً جديداً تنضح فيه روحك. لأن المجتمع الصالح يكون ملاذاً لمن عصف بهم اليأس، ومأوى لمن تاهت به مشاعره. وفي هذا يكمن جانب عظيم من علاج اليأس: أن ننزع الفامة التي توصد القلب، فتعود عليه دفء الأخوة، ويتدفّق في عروقنا دم الألفة، فنجد في ذلك شحنة إيجابية تسرع بخطانا إلى النور.

ولا ينبغي أن نغفل عن دور العمل التطوعي والخيري في استنهاض الذات، فقد ثبت أن من يشغّل وقته بمدّ يد العون لمن هو أحقّ بها ينصرف بذلك عن الأنانية ويجد نفسه في موضع البطل الذي ينقذ غيره، ويؤثر بذلك أنسةً في من يشبهه في المعاناة. وعندما يرى المتطوعون حسناً في خدمة الغير، يتراءى الدعم النفسي والسكينة لحياتهم، فلا يعود لديهم متسعٌ لليأس. فمثل هذه المبادرات يمكن أن تكون حلقة وصل بين القلوب، وشعلة تضيء عتمة النفوس.

ومن أهم ما يرفع من مستوى المقاومة لليأس أن نقيم في دواخلنا احتجاجاً دائمًا ضد التهاون في الحقوق التي وهبنا الله إياها: العقل، والصحة، والكرامة. فإذا أذنب الإنسان في حقّ نفسه بالصحة، بانقطع عنه أحد مصادر قوّته، وإذا أهدّر حُرمة العقل بالتفكير السلبي، نُفضّ مكانه أنياب اليأس. ولذا فإن من أشدّ الأسلحة فاعلية لمقاومة اليأس هو ضبط النفس على الغذاء والرياضة، وكذلك تربية العقل على قراءة الكتب المفيدة والاستزادة بالعلوم النافعة، مما يجعله لا يستفرغ وقته في تفاصيل الحياة السلبية.

أما إذا كان اليأس نابته في الشؤون المهنية؛ حين يخسر أحدهم وظيفته، أو يتعثّر مشروعه، فإن عليه أن يتذكر أن الله قد لا يفتح باباً إلّا وقد أغلق باباً آخر. فنجد في بحوث المستشعرين في دروب التحوّل المهني أن الأشخاص الذين خسروا فرص عمل عادوا بعد ذلك أقوى، بعدما استفادوا من فترات التدريب والتطوير، فتحولوا إلى رواد أعمال وفتحوا من خلال تجربتهم أبواباً جديدة. وهنا تلعب المدرسة التدريبية دوراً مهماً في تهذيب كفاءات الإنسان، وإحالة الخسارة إلى نبع إبداع لا ينضب. فإذا استثمر الإنسان هذه الخسارة في اكتساب مهارة جديدة، وجد نفسه في نهاية المطاف أكثر قوة وتفاؤلاً.

ولعله من مفاتيح تضييق مجال اليأس أن ننظر بصدق إلى علامات التقدم مهما كانت صغيرة؛ فكم من إنسان بدأ بإنجاز بسيط ثم تتابع إنجازاته وتراكمت، حتى صار من قادة الفكر والعمل في مجاله. فعندما نراقب خطانا ونسجل تطوراتنا اليومية، نكتشف أننا في طريق صحيح، وأن الذراع التي امتلأت بالدموع بالأمس قد تعقد ظهراً قويّاً اليوم. وكم من مبتدئ تعلم علّة ما في حاسوبه ظل يكرر المحاولة حتى اتقنَ الأمر وصار ميسِّراً لغيره! فكل إنجاز، وإن بدا ضئيلاً، يشبه حبة الرمل التي يبني منها المُضيف عرشاً من الصحاري. وما دام في يدك قلمٌ يبعثك على الكتابة، أو حاسبٌ يفتح لك أبواب المعرفة، فإن اليأس لا يستولي عليك.

ومن دواعي الفخر أن يُذكر هنا أن الشعوب التي برزت في معترك التحديات تنبّهت إلى أهمية التعليم مدى الحياة، فطوّرت مناهجها، وأنشأت للأفراد برامج تدريبية وتطويرية مستمرة، فتجد الأفراد يتحولون من خريجين عاطلين إلى محترفين في مجالات عدة في فترة قصيرة. إن الإنسان متى ما صقَل مهاراته، اختفت أمامه عوائق البطالة، وضاعف معدّلات الأمل. وهنا يأتي دور الحكومات والمؤسسات في دعم مثل هذه البرامج، ليصبح الإنسان أكثر قدرة على مواكبة عجلة التقدم والتغيير.

ولا يخفى علينا أن للأدب والفنون دوراً كبيراً في إنعاش القلوب المجروحة؛ فالقصائد التي تُنشدُ في حلقات الليل، والأغاني التي تحمل بين أفنانها معانٍ للثبات والتشبّث بالحياة، والمسرحيات التي تفضح ظاهرة اليأس، كل ذلك يسهم في إعادة الثقة إلى النفس. فعندما يستمع الإنسان إلى قصيدة تبعث الأمل في صدره، يظن أن الكلمات وردهات الشعر قد شبّهته بالنخلة التي تهتز أمام العواصف، فلا تنكسر، بل تبقى شامخة. ولذلك من المَفيد أن نخصص في برامجنا اليومية لحظات للاستماع إلى أو قراءة نصوصٍ تلهمنا صموداً وإقداماً.

ولا يجوز أن نغفل دور البيئة المحيطة التي يعيش فيها الإنسان؛ فإن كانت سلبية ومليئة بالمنتقدين السلبيين، ومحاطاً بأشخاصٍ يقتلون الحلم قبل أن يولد، فإن ذلك يسهّل لليأس أن يعتصم في صدره. لذا يجب على الإنسان أن يسعى إلى بناء بيئة إيجابية: ابتعِد عن النمّامين الذين يقتاتون على نزق الآخرين، وعزز اتصالك بمن يشاركونك روح الطموح والإيمان، فالإنسان أشبه بوعاء يقف أمامه ماء الأمل؛ فإذا كان الوعاء نظيفاً صافيًا، يتلألأ الماء فيه، وإن كان معتمًا بالوساخة، قلّت فوائده. وهكذا دواليك؛ إذا كان المحيط داعماً مبشراً، نقل لك الإيجابية، وإن كان محيطاً قاتماً، نقل لك القنوط.

إن جمال الحياة لا يتجلى بالفراغ من المصاعب، بل بتجاوزهما، وإن أقسى ما في الأمر أن تكون المصاعب نفسها دعوات للانكسار إن عجزنا عن حلها. فعشّوا مع موسيقى الحياة، وكأن كل ضربة وترٍ فيها هي دعوة للفرح، وليس دعوة للخمول. فحين تنظر إلى إبراهيم الخليل عليه السلام وهو يتقدم ليُلقى في النار، لا يلحظ الدهشةَ في عينيه، بل يلمح فيها باب الخلاص؛ إذ قال فيه: ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ﴾ ولم يعرب عن جزعه، بل أثبت جذوة اليقين في قلبه. فلنتعلم منه أن المصاعب لا تُرهب المؤمن الحق، بل تزيده ثباتاً وحكمة. وإذا جَرَت بنا المحن، فلتكن تلك اللحظات لوحةً فنيةً ترسم ألوان البسمة على شفتينا بعدما تثبتنا على دعائم الإيمان.

ولا يفوتني أن أذكر أهمية أن نفهم اليأس على حقيقته: فهو لا يعدو كونه شعوراً مؤقتاً، يكاد يتسلل إلى القلوب حين تغيب عنه قواعد اليقين والعمل، فإذا راقبنا النفس على نحو علمي، وجدنا أنها لا تغدو حالتها أفضل إلا بإعادة إعدادها بعلاقاتها مع من حولها، ومع ربّها، ومع أهدافها. فهنا ينبغي ألا نركن إلى الاستسلام، ولا نستكين لحال البؤس؛ بل نسعى إلى تنمية علاقاتنا الروحية والاجتماعية والأسرية، فإذا استقامت هذه العلاقات، اعتمدت النفس على ميزان متكامل يستحيل معه أن تيأس.

إن مشروع “لا لليأس والاستسلام” هو مشروع نستطيع جميعاً أن نحتضنه، فرسالته تلامس وجدان كل إنسان يعتريه القلق، وينشر حوله الشك. وقد لا يقتصر تأثيره على جانب الشخصي، بل يتعاظم تأثيره إذا انتقل إلى المحيط الاجتماعي والمهني؛ فإذا تبنّى فريق عمل هذه الرسالة، صار العمل أكثر إبداعاً، وأقل تردداً. وإذا اكتسبها الطالب في مقاعد الدراسة، وجد نفسه أكثر قدرة على المذاكرة، والتفاؤل بشأن مستقبله، وإن زلّت قدمه في اختبار، لم يكن ذلك باباً للنهاية، بل باباً لبداية جديدة مع إعادة المحاولة.

وفي ختام هذه السطور، أتقدَّم بخالص الشكر والتقدير لإدارة هذا الصرح العلمي والثقافي الرائع، الذي فتح لنا أبواب النقاش والاحتواء، بل وإلى الأخ العزيز الذي أطلق موضوعه هذا المشرق؛ فلو لم تشأ تعبّر وترسُم لنا حدوده، لما جمعتنا هذه اللحظات للكتابة في مساحات الأمل. ليبقى شعارنا راسخاً: لا لليأس والاستسلام، فقلوبنا التي تتوسد فخماً من الأمل والإيمان لن تعرف طريق الانكسار. لن نستكين مهما اصطفت علينا رياح السخط، بل سنكتب بحروف التحدي: إن اليأس في قاموسنا غير موجود، وإن روحنا ترتفع أعلى من كل جبال الهمّ. فهلمّوا معي، تعالوا نخطو أولى خطوات النُّصرة لأنفسنا ولأوطاننا بحِلَّة الأمل.

تحياتي / إحساس غالي

#لا_لليأس #الأمل #الصمود #الإيمان

#الإرادة #التحدي #النجاح

#الحياة #التفاؤل