السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وتحياتي العيبة للأعضاء الكرام في هذا الصرح الشامخ الذي يظل منارة للعلم والمعرفة والحوار البناء. إنه لمن دواعي سروري وشرفي أن أقف اليوم بينكم، أطرح تساؤلاً يلامس أعماق الوجود البشري في ساحة العمل، تساؤلاً يتردد صداه في جنبات أرواحنا المنهكة، ويجعلنا نتوقف متأملين في سر هذا الصمت الرهيب الذي يلف خمسة من كل سبعة موظفين، فلا يعترفون بأنهم قد بلغوا من الإرهاق النفسي منتهاه. إنها ظاهرة تستدعي منا وقفة تأمل عميقة، وتستدعي منا أن نغوص في بحر الأسباب التي تدفع هذه الغالبية الصامتة إلى ارتداء قناع القوة، وتجعلهم يتوارون خلف حجاب المظهر الخارجي اللامع، بينما تتآكل أرواحهم من الداخل.
إن الإرهاق النفسي في بيئة العمل ليس مجرد تعب عابر، بل هو حالة من الاستنزاف الطارئ والعميق الذي يطال الروح والذهن، ويُنهك القدرة على المواصلة والابتكار، بل وحتى على الشعور بالحياة. ومع ذلك، نجد أن هذا الإرهاق، رغم شيوعه وتفشيه، يظل طابوهاً خفياً، سرًا يدفن في زوايا النفس، لا يُكشف عنه ولا يُصارح به. فلماذا هذا الكتمان يا ترى؟ ما هي القوى الخفية التي تدفع الفرد إلى خنق صرخات روحه المتعبة، وتزييف واقعه، مدعياً القدرة على التحمل، وهو على وشك الانهيار؟
لعل أول الأسباب التي تلوح في الأفق، وتُلقي بظلالها الكثيفة على هذه الظاهرة، هي ثقافة الأداء المتفشية والتوقعات اللانهائية التي تفرضها بيئات العمل المعاصرة. لقد أصبح العالم أشبه بآلة عملاقة لا تتوقف عن الدوران، تتطلب من أفرادها سرعة لا ترحم، وإنتاجية لا تعرف الحدود. في هذا السياق، يصبح الاعتراف بالإرهاق النفسي بمثابة إعلان فشل، أو ضعف لا يُغتفر. يُنظر إلى الموظف الذي يجهر بتعبه وكأنه لا يواكب الركب، أو أنه غير قادر على تحمل الضغوط التي يتطلبها النجاح. إنها وصمة عار افتراضية قد تلاحقه في تقارير الأداء، وتؤثر على فرصه في الترقي، بل قد تهدد وجوده في مكان العمل برمته. الجميع يتسابقون في ماراثون لا نهاية له، والوقوف للاستراحة يُعد رفاهية لا تليق بالمحترفين، أو قد يُنظر إليه على أنه تراجع عن خط البداية. هذا الضغط المجتمعي والمهني يخلق قناعًا زائفًا من القوة، حيث يتبارى الجميع في إظهار أنهم "بخير"، "قادرون"، و"متحملون"، حتى لو كانت أرواحهم تهتز تحت وطأة الأعباء.
وما يزيد الطين بلة هو الخوف العميق من الوصمة الاجتماعية والمهنية المرتبطة بالصحة النفسية. في كثير من المجتمعات، وحتى في بعض البيئات المؤسسية التي تدعي التقدم، لا يزال الحديث عن الإرهاق النفسي أو الاضطرابات المرتبطة بالصحة العقلية يُقابل بالجهل، أو الشفقة، أو حتى التجاهل. يُخشى أن يُنظر إلى الشخص على أنه "مختل"، أو "غير متوازن"، أو "غير أهل للمسؤولية". هذا الخوف يضرب بجذوره في عمق الوعي الجمعي، فيتحول الاعتراف بالتعب إلى سيف مسلط على رقبة الموظف، يهدد سمعته ومستقبله. فكيف يمكن لموظف يطمح في الترقي أو يحاول الحفاظ على وظيفته في ظل سوق عمل متقلب أن يرفع راية الاستسلام النفسي؟ إنهم يدركون، وبحس فطري، أن هذا الاعتراف قد يُفسر على أنه قلة احترافية، أو نقص في المرونة، وهي صفات لا مكان لها في القاموس المؤسسي المعاصر. لذا، يختارون الصمت، ويُخفون جروحهم النفسية تحت طبقات سميكة من الابتسامات الزائفة والأداء المتقن.
ثم تأتي ضبابية الحدود بين الحياة العملية والشخصية لتُفاقم من هذا الصمت المرير. ففي عصر التواصل المستمر، ومع تطور التكنولوجيا التي جعلت العمل متاحًا في أي وقت ومن أي مكان، تلاشت الحدود الفاصلة بين ساعات العمل وساعات الراحة. البريد الإلكتروني الذي يصل في منتصف الليل، والمكالمة العاجلة في عطلة نهاية الأسبوع، كلها رسائل ضمنية مفادها أن التواجد الدائم مطلوب، وأن الفصل بين العمل والحياة هو رفاهية قديمة. هذا التداخل المستمر يمنع الموظفين من إعادة شحن طاقاتهم النفسية، ويجعلهم في حالة تأهب دائم، وكأنهم محاربون في معركة لا تنتهي. ومع غياب لحظات الانفصال الحقيقية عن ضغوط العمل، يصبح الإرهاق النفسي حالة مزمنة، بدلاً من كونه مجرد مرحلة عابرة. وعندما يصبح التعب جزءًا لا يتجزأ من الوجود اليومي، يُصبح من الصعب على الفرد أن يميزه كحالة استثنائية تستدعي الاعتراف. إنه يُصبح "الوضع الطبيعي الجديد" الذي يُجبر على التعايش معه.
ولا يمكننا أن نغفل غياب البيئات الداعمة وأنظمة الدعم النفسي الفعالة في العديد من المؤسسات. على الرغم من أن بعض الشركات الكبرى بدأت تدرك أهمية الصحة النفسية لموظفيها، إلا أن الغالبية العظمى لا تزال تفتقر إلى الأطر الواضحة لتقديم الدعم النفسي، أو حتى لإنشاء ثقافة تشجع الموظفين على التعبير عن ضعفهم دون خوف. القادة، في كثير من الأحيان، يفتقرون إلى التدريب اللازم للتعرف على علامات الإرهاق النفسي لدى فرقهم، أو لتقديم المساعدة المناسبة. قد يفضل البعض رؤية الموظف ككفاءة إنتاجية لا تتأثر بالعوامل البشرية، بدلاً من كونه كائنًا معقدًا له مشاعره وتحدياته. فإذا لم تكن هناك قناة آمنة للتعبير، أو يد دافئة للمساعدة، فمن الطبيعي أن يُفضل الموظف إخفاء آلامه، خشية أن يواجه اللامبالاة، أو ما هو أسوأ، أن تُستخدم نقاط ضعفه ضده.
وهناك أيضًا الصراع الداخلي والإنكار الذاتي الذي يعيشه الفرد. فالكثيرون يميلون إلى التقليل من شأن ما يمرون به، أو ينسبون إرهاقهم إلى أسباب خارجية لا علاقة لها بالعمل، كنوع من آليات الدفاع النفسي. قد يقولون لأنفسهم إنهم "مجرد متعبين جسديًا"، أو "يحتاجون إلى إجازة"، أو إنها "مرحلة وستمر". هذا الإنكار هو طريقة للدماغ لحماية النفس من حقيقة مؤلمة: أنهم قد وصلوا إلى أقصى حدودهم. كما أن مفهوم "متلازمة المحتال" قد يلعب دورًا هنا، حيث يشعر الموظف، حتى لو كان ناجحًا، أنه غير كفء أو أنه "سيُكتشف" في النهاية. وبالتالي، فإن أي إشارة لضعف نفسي قد تُعزز لديهم هذا الشعور الداخلي بالنقص، مما يدفعهم إلى بذل جهد مضاعف لإخفاء أي علامات للإرهاق. إنهم يرتدون درعًا من الصمود، لا ليحموا أنفسهم من الآخرين فحسب، بل ليحموا أنفسهم من الحقيقة القاسية التي لا يرغبون في مواجهتها.
ولا يغيب عن المشهد عقلية التضحية من أجل النجاح والطموح اللامحدود. ففي كثير من الثقافات، خاصة تلك التي تركز على الإنجاز الفردي، يُنظر إلى التضحية بالراحة، والصحة، وحتى الحياة الشخصية، على أنها علامات على الالتزام والتفاني الذي لا غنى عنه لتحقيق الأهداف الكبرى. يُغذى هذا التصور من قصص النجاح التي غالبًا ما تُهمل الجانب المظلم من التضحيات الشخصية. فالطموح قد يكون دافعًا قويًا، ولكنه قد يتحول إلى سجان يقيّد الروح، ويجبر الفرد على تجاهل علامات الإرهاق الجسدي والنفسي، مدفوعًا بوهم أن الألم المؤقت هو ثمن لا بد منه للمجد الدائم. يصبح الإرهاق النفسي ثمنًا مقبولًا، أو ربما حتى "شارة شرف" تدل على مدى الجهد المبذول والتفاني.
وفي خضم هذه المعضلة، قد يكون غياب الوعي الذاتي وضعف الثقافة العاطفية عاملاً آخر. فليس الجميع يمتلك القدرة على التعرف على علامات الإرهاق النفسي بدقة، أو فهم تأثيرها الحقيقي على حياتهم. قد يخلط الكثيرون بين التعب الجسدي والنفسي، أو يفشلون في ربط الأعراض الجسدية (مثل الصداع المزمن، الأرق، مشاكل الجهاز الهضمي) بالضغط النفسي. إن غياب اللغة المشتركة للحديث عن المشاعر والأحاسيس، وعدم تعليم الأفراد كيفية رعاية صحتهم النفسية منذ الصغر، يتركهم عاجزين أمام عواصف الإرهاق التي تهب عليهم. فيعجزون عن تسمية ما يشعرون به، وبالتالي يعجزون عن التعبير عنه أو طلب المساعدة.
إن هذا الصمت الجماعي عن الإرهاق النفسي له عواقب وخيمة، ليس فقط على الأفراد أنفسهم، بل على المنظمات والمجتمعات ككل. فهو يؤدي إلى تدهور الصحة الجسدية والعقلية للموظفين، وانخفاض الإنتاجية والإبداع، وارتفاع معدلات التغيب ودوران الموظفين، وتسمم بيئة العمل بالتوتر والضغوط غير المعلنة. إنه يخلق جدرانًا خفية من العزلة بين الأفراد، حيث يشعر كل متعب أنه وحيد في معاناته، مع أن الغالبية تشاركه نفس الشعور ولكن بصمت.
ولكي نكسر هذه الدائرة المفرغة من الإنكار والصمت، يجب علينا أن نعيد تعريف مفهوم القوة والمرونة في بيئة العمل. يجب أن تُصبح القوة الحقيقية في القدرة على الاعتراف بالضعف وطلب المساعدة، لا في إخفائه. يجب على المنظمات أن تتحمل مسؤوليتها في خلق بيئات عمل داعمة وشاملة، حيث يُقدر رفاهية الموظف بقدر إنتاجيته. يتطلب ذلك قادة متعاطفين، ومدربين على الاستماع، وأنظمة دعم نفسية متاحة وسرية، وحملات توعية تزيل الوصمة عن الصحة النفسية. إنها دعوة لإعادة إنسانية بيئة العمل، وتذكير بأن الموظفين ليسوا مجرد أرقام في معادلة الإنتاج، بل هم أرواح بشرية تستحق الرعاية والتقدير. ولعل هذه هي الخطوة الأولى نحو فك لغز هذا الصمت الغامض الذي يلف أرواحنا في ساحات العمل، وتأكيد على أن الصحة النفسية هي جزء لا يتجزأ من النجاح، وليست عائقًا أمامه.
وفي الختام، أتوجه بجزيل الشكر وعظيم الامتنان لإدارة هذا الموقع الموقر على إتاحة هذه المساحة للحوار الهادف والبناء، وللأخ الكريم على جهوده الدؤوبة في إدارة هذا الصرح.
تحياتي / إحساس غالي
#التوازن_المهني #الرعاية_الذاتية