السلام وعبارات تحية طيبة للأعضاء الكرام، أسعد الله أوقاتكم بكل خير وامتنان.
نتأمل اليوم قضية باتت تُثقل كاهلَ زمننا، وتُلقي بظلالها الكثيفة على أرواحنا التي ما فتئت تكافح للحفاظ على بعض من فسحة الوجود خارج أسرِ العمل المستمر. إنها ليست مجرد ملاحظة عابرة، بل هي ظاهرةٌ تتجذر وتتسع في نسيج حياتنا اليومية، وهي تلك الحقيقة المرة التي تُشير إليها الإحصائيات الصامتة: لماذا يرسل ستة من كل عشرة مديرين رسائلَ بعد الدوام، وكأن الموظف ليس إلا آلةً صماء، لا تعرف كللاً ولا مللاً، ولا تملك حقاً أصيلاً في لحظات السكون والراحة والانفصال؟ هذا السؤال ليس مجرد استفهام عابر، بل هو صرخةٌ تتكسر على جدران الروتين، واستفهامٌ عميق يمس جوهر كرامة الإنسان في بيئة العمل المعاصرة.
إنّ النظرة التي تُعامل الموظف كـ "آلة" ليست وليدة فراغ، بل هي نتاج تراكماتٍ ثقافية واقتصادية وتكنولوجية، صاغت وعياً جمعياً يرى في الكفاءة القصوى والإنتاجية المتواصلة الغايةَ المُثلى، حتى لو كان ثمن ذلك هو استنزاف الروح وتبديد الجسد. ففي غمرة التسارع العالمي، ومع ضغوط المنافسة الشرسة التي لا ترحم، يجد المدير نفسه تحت مطرقةٍ وسندان؛ مطرقة التوقعات المتزايدة من الإدارة العليا، وسندان الأهداف الطموحة التي لا تعرف توقفًا. هذه الضغوط، وإن كانت حقيقية، لا تبرر بأي حال من الأحوال تحويل الإنسان إلى مجرد رقم في معادلة إنتاجية، أو ترساً يدور بلا كلل في عجلةٍ لا تتوقف. إنها تخلق ثقافةً يرى فيها المدير – ربما دون قصد – أن الاستجابة الفورية، حتى خارج أوقات العمل الرسمية، هي معيار الالتزام المطلق والنجاح الحتمي، وأن أي تأخير في الرد قد يُفسر على أنه قصور أو تقاعس، فينشأ بذلك خوفٌ خفيٌّ يدفعهم لتوسيع دائرة تأثير العمل لتشمل كل تفاصيل حياة الموظف.
لقد لعب التقدم التكنولوجي، الذي كان من المفترض أن يكون نعمةً تُحررنا من قيود الزمان والمكان، دوراً مزدوجاً في هذه الملحمة. فالأجهزة الذكية وتطبيقات التواصل الفوري ورسائل البريد الإلكتروني لم تعد مجرد أدوات للتواصل، بل أصبحت، للأسف، أغلالاً غير مرئية تُقيد روح الموظف. فبضغطة زر واحدة، يمكن لرسالة أن تعبر القارات، وتخترق جدران المنازل، وتقتحم قدسية اللحظات الشخصية الهادئة. هذا التدفق المستمر للمعلومات يخلق وهماً للإلحاح، فيشعر المدير بأن أي فكرة تخطر بباله، أو أي مهمة تظهر أمامه، يجب أن تُرسل فوراً، حتى لو كانت منتصف الليل، وكأن شروق الشمس وانتظار الصباح قد يُلغي أهميتها. هذا الوهم يُعزز فكرة أن العمل لا يتوقف، وأن حدود الزمان والمكان قد تلاشت، وأننا جميعاً جزء من نظام عالمي "يعمل على مدار الساعة". ينسى الكثيرون أن هذه التقنيات، بحد ذاتها، هي مجرد قنوات، وأن المسؤولية الأخلاقية في كيفية استخدامها تقع على عاتق الإنسان الذي يقف خلف الشاشة. إنها ليست ذنب التكنولوجيا، بل هي سوء استخدامها الذي يحولها من أداة للتحرير إلى وسيلة للاستعباد الخفي.
إنّ أثر هذه الممارسات على الموظف هو أثرٌ عميق ومدمر، لا يقتصر على التعب الجسدي فحسب، بل يمتد ليطال أعمق طبقات الوجود الإنساني. فعندما تُرسل رسالة بعد الدوام، أو عندما يُطلب ردٌّ فوريٌّ خارج الساعات الرسمية، فإن هذا لا يعني مجرد قراءة بريد إلكتروني، بل يعني اقتحامًا لحياةٍ شخصيةٍ لها قدسيتها وحرمتها. إنها لحظةٌ يُفترض أن تكون مخصصة للعائلة، للأصدقاء، للتأمل، للممارسة الهوايات، لإعادة شحن الطاقة، أو حتى لمجرد الاسترخاء في صمت. عندما تُكسر هذه اللحظات بشكل متكرر، فإن الموظف يعيش في حالةٍ من التأهب الدائم، وهو ما يُعرف بـ "اليقظة المفرطة للعمل". يصبح الهاتف المحمول، الذي كان رفيقاً، سيفاً مسلطاً على عنقه، يُذكره باستمرار بالواجبات المعلقة والمسؤوليات التي لا تنتهي. تتسرب القلق والتوتر إلى أوقات الراحة، فيتلاشى الخط الفاصل بين الحياة المهنية والشخصية، ويصبح المنزل مجرد امتداد للمكتب.
تتفاقم التداعيات النفسية لتشمل الأرق المزمن، والقلق المستمر، والاحتراق الوظيفي الذي يدمر الإبداع ويُطفئ الشغف. فالإنسان، على عكس الآلة، لا يملك بطاريات يمكن شحنها بسرعة بمجرد فصلها عن مصدر الطاقة. الروح تحتاج إلى وقت للنقاهة، والعقل يحتاج إلى فسحة للتأمل، والجسد يحتاج إلى راحة حقيقية لإعادة ترميم نفسه. عندما يُحرم الموظف من هذا الحق الأساسي، يصبح أقل إنتاجية، وأكثر عرضة للخطأ، وأقل قدرة على الابتكار. تتحول علاقته بالعمل إلى علاقة إرهاق واستنزاف، لا علاقة إبداع وإنجاز. يصبح العمل مصدرًا للقلق بدلاً من كونه مصدرًا للإلهام، وتتآكل تدريجياً قدرته على العطاء، ليس لقلة الكفاءة، بل بسبب قلة الراحة والتقدير لحاجاته الإنسانية. هذه الدوامة المُرهقة لا تضر الموظف وحده، بل تمتد لتضر علاقاته الأسرية والاجتماعية، وتُنهك صحته الجسدية والعقلية، لتتحول في النهاية إلى أعباء على المجتمع بأسره.
هنا يبرز السؤال الأخلاقي والفلسفي الأعمق: هل الموظف مجرد ترس في آلة كبرى، أم أنه كائن بشري له كرامته وحقوقه واحتياجاته؟ إنّ النظرة إليه كآلة تتجاهل جوهر الإنسانية، وتُنكر حقه في الاستقلالية والتحكم في حياته. إنها نظرة تتجاهل أن الإبداع الحقيقي، والإنتاجية المستدامة، والالتزام الصادق، لا يمكن أن ينبع من الضغط والإرهاق المستمر، بل ينبع من شعور الفرد بالتقدير، وبالانتماء، وبالقدرة على المساهمة بكامل طاقته في بيئة تحترم إنسانيته. إن "الحق في الانفصال" عن العمل بعد ساعات الدوام الرسمي، والذي بدأت بعض الدول تتبناه في قوانينها، ليس مجرد امتياز، بل هو حق أساسي يُعزز الصحة النفسية والجسدية، ويُمكن الأفراد من العيش حياة متوازنة، ويعكس فهماً أعمق لطبيعة العمل والعامل في العصر الحديث. إنه إقرار بأن قيمة الإنسان تتجاوز مجرد عدد الساعات التي يقضيها أمام شاشة الكمبيوتر أو في إنجاز المهام.
إنّ ثقافة "العمل اللامحدود" التي تتسرب عبر الرسائل الليلية لا تُساهم في بناء مؤسسات قوية ومستدامة. على العكس، إنها تُساهم في هجرة الكفاءات، وتُخلق بيئة عمل سامة تُعاني من ارتفاع معدلات دوران الموظفين، وانخفاض الروح المعنوية، وتدهور جودة العمل. فالموظف الذي يشعر بأنه مجرد آلة سيؤدي عمله بآلية، دون شغف أو ابتكار، وسيبحث عن أول فرصة للتحرر من هذا القيد غير المرئي. المؤسسات التي تتجاهل هذا البعد الإنساني تُخاطر بفقدان أثمن ما تملك: عقول موظفيها وقلوبهم وولائهم.
لقد آن الأوان لكي يُعيد المديرون النظر في هذا السلوك، ليس فقط من منطلق التعاطف، بل من منطلق الفهم العميق لمصلحة العمل على المدى الطويل. يجب أن يدركوا أن القيادة الحقيقية ليست في إجبار الموظفين على العمل بلا توقف، بل في إلهامهم وتحفيزهم، وتوفير البيئة التي تسمح لهم بالنمو والازدهار. هذا يتطلب تحولاً في العقلية، من التركيز على "التوفر الدائم" إلى التركيز على "الإنتاجية الفعالة" التي تُقدر جودة المخرجات لا كمية الساعات. يجب أن تُوضع حدود واضحة لأوقات العمل، وأن تُحترم تلك الحدود بلا استثناء. يمكن للرسائل العاجلة حقًا أن تُرسل عبر قنوات مخصصة للطوارئ، لكن غالبية الرسائل يمكنها الانتظار حتى صباح اليوم التالي.
يتطلب ذلك من الإدارات العليا تبني سياسات واضحة تُشجع على التوازن بين العمل والحياة، وتُقدم التدريب للمديرين حول القيادة الرحيمة والإدارة الفعالة للوقت. إنّ بناء ثقافة تنظيمية تُعلي من قيمة الرفاهية والصحة النفسية للموظف هو استثمارٌ حكيم يُجني ثماره على المدى الطويل في صورة ولاء موظفين، وزيادة في الابتكار، وتحسين في الأداء، وجذب لأفضل الكفاءات. فالموظف الذي يشعر بالراحة والتقدير، هو موظفٌ قادر على العطاء بكامل طاقته، والإبداع دون قيود، والنمو المستمر. إنّ كرامة الإنسان في العمل ليست مجرد شعار، بل هي أساس لأي ازدهار مستدام، لأي مؤسسة تطمح إلى مستقبلٍ مشرق لا تُرهقه آلة الإنتاجية الصماء. لنتذكر دائماً أن وراء كل شاشة، ووراء كل مهمة، إنسانٌ له حياةٌ تتجاوز جدران المكتب وساعات العمل.
في الختام، أتقدم بجزيل الشكر وعظيم الامتنان لإدارة الموقع الكريمة على هذه المنصة الثمينة التي تُتيح لنا طرح مثل هذه القضايا الحيوية، وأخص بالشكر والتقدير أخي الفاضل الذي يُساهم في إثراء هذا الصرح المعرفي. دام عطاؤكم وإبداعكم.
تحياتي / إحساس غالي
#إدارة_الموارد_البشرية #ثقافة_العمل #الصحة_النفسية #توازن_الحياة_والعمل #حق_الانفصال
#قيادة_رحيمة #الموظف_أولا #الاحتراق_الوظيفي #الاستنزاف_الرقمي