السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أيها الأعضاء الكرام، تحية طيبة مباركة لكم من القلب، وبعد:
يُسعدني ويُشرفني أن أخط بين أيديكم اليوم هذه الكلمات، التي أسعى من خلالها إلى الغوص في بحرٍ متلاطم الأمواج، يمسّ شغاف قلوبنا جميعًا، وينعكس على مسارات حياتنا المهنية والشخصية، ألا وهو التوتر في بيئة العمل. هذا التوتر الذي بات سمةً من سمات عصرنا، وحالةً يُعايشها الكثيرون منا، في صراعٍ دائمٍ مع ضغوطاتٍ متزايدة، وتحدياتٍ متجددة، تستنزف الطاقة، وتُربك التركيز، وتُلقي بظلالها على الإنتاجية والإبداع.
إن الحديث عن التوتر ليس مجرد استعراضٍ لمشكلةٍ عابرة، بل هو تحليلٌ عميقٌ لظاهرةٍ مُتأصلة، تتشعب جذورها، وتتداخل خيوطها، لتُشكل دوائرَ من التأثير والسيطرة، تُحاصر الفرد، وتُقيد حركته، وتُعيق قدرته على تحقيق التوازن المنشود. فبيئة العمل ليست مجرد مكانٍ نُقضي فيه ساعاتٍ طويلة، بل هي نسيجٌ مُعقدٌ من العلاقات والتفاعلات، والطموحات والتحديات، تتأثر وتُؤثر، وتُعطي وتأخذ، وتُشكّل جزءًا لا يتجزأ من هويتنا ووجودنا.
تتجلى دوائر التأثير في التوتر من خلال عدة محاور رئيسية، يتداخل بعضها ببعض، ليُشكل شبكةً مُحكمةً من الضغوط. أولها، دائرة الضغوط الخارجية، التي تُلقي بظلالها على بيئة العمل، وتُصبح جزءًا لا يتجزأ من نسيجها. هذه الضغوط قد تنبع من طبيعة العمل ذاتها، كالمواعيد النهائية الضيقة، أو الأهداف الطموحة التي تتجاوز الموارد المتاحة، أو التغييرات المُتسارعة في استراتيجيات العمل وتقنياته. وقد تتسع هذه الدائرة لتشمل الضغوط الاقتصادية والاجتماعية، التي تُثقل كاهل الموظف، وتُشغل باله، وتُشتت تركيزه، فيُصبح العمل ملاذًا، وفي ذات الوقت مصدرًا إضافيًا للقلق.
ثم ننتقل إلى دائرةٍ أشدّ قربًا وتأثيرًا، ألا وهي دائرة العلاقات الإنسانية داخل بيئة العمل. فالتعامل مع الزملاء والرؤساء والمرؤوسين، يُمكن أن يكون مصدرًا للإلهام والدعم، أو قد يُصبح نبعًا للتوتر والصراع. فسوء الفهم، أو انعدام التواصل الفعال، أو وجود شخصياتٍ مُتسلطة أو سلبية، يُمكن أن يُشعل فتيل التوتر، ويُعيق تدفق العمل، ويُحطم الروح المعنوية. فالإنسان كائنٌ اجتماعيٌ بطبعه، يتأثر بمن حوله، ويُؤثر فيهم، وتُشكّل جودة علاقاته جزءًا أساسيًا من رضاه عن حياته وعمله.
ولا يمكننا أن نُغفل دائرةً جوهرية، وهي دائرة الذات الداخلية، التي تُعتبر نقطة الارتكاز في مواجهة التوتر. فالطريقة التي نُدرك بها المواقف، وكيفية استجابتنا للضغوط، ومعتقداتنا حول قدراتنا وإمكانياتنا، تُشكل فارقًا كبيرًا في مدى تأثرنا بالتوتر. فالشخص الذي يُعاني من الكمالية المفرطة، أو الخوف من الفشل، أو عدم القدرة على تحديد الأولويات، يُصبح أكثر عرضةً للتوتر، وأقل قدرةً على التكيف مع التحديات. إن الصراع الداخلي، والتوقعات غير الواقعية، والنقد الذاتي المُفرط، يُمكن أن يُصبحوا مصدرًا للتوتر يفوق في تأثيره الضغوط الخارجية.
أما فيما يتعلق بـدوائر السيطرة، فهي تلك المساحات التي نملك فيها القدرة على إحداث التغيير، وتعديل المسار، والتحكم في ردود أفعالنا تجاه التوتر. ففي خضم الضغوط، قد يشعر البعض بالعجز وفقدان السيطرة، لكن الحقيقة أن هناك دائمًا مساحةٌ للمناورة، ومساحةٌ للتحكم، إذا ما أدركنا أين تقع هذه المساحات.
أولى هذه الدوائر هي دائرة السيطرة على الذات. وهي تبدأ بالوعي الذاتي، وإدراك مصادر التوتر لدينا، وفهم كيفية تأثيرها علينا. فالمعرفة هي مفتاح السيطرة. عندما نُدرك أننا نُعاني من التوتر، ونُحدد الأسباب الكامنة وراءه، نُصبح قادرين على اتخاذ خطواتٍ استباقية لمعالجته. وهذا يشمل تعلم تقنيات إدارة التوتر، كالتأمل، والتنفس العميق، وممارسة الرياضة، وتنظيم الوقت، وتحديد الأولويات. كما يشمل أيضًا تطوير مهارات التأقلم، كالتفكير الإيجابي، والتركيز على الحلول بدلاً من المشاكل، والتعلم من الأخطاء بدلاً من جلد الذات. إن القدرة على تنظيم مشاعرنا، والتحكم في أفكارنا، هي حجر الزاوية في بناء مناعة ضد التوتر.
ثم تأتي دائرة السيطرة على البيئة المحيطة، وإن كانت هذه السيطرة جزئية وليست كلية، إلا أنها لا تقل أهمية. ففي كثير من الأحيان، يمكننا أن نُؤثر في بيئة العمل من خلال التواصل الفعال، ووضع الحدود الواضحة، والتعبير عن احتياجاتنا بأسلوبٍ مهنيٍ ومُحترم. فطلب المساعدة عند الحاجة، وتفويض المهام عندما تكون العبء كبيرًا، واقتراح حلولٍ للمشاكل، كل ذلك يُساهم في تقليل الضغط وتخفيف التوتر. كما يُمكننا أن نُؤثر في البيئة من خلال بناء علاقاتٍ إيجابية مع الزملاء والرؤساء، وتكوين شبكة دعمٍ تُساعدنا على تجاوز التحديات. إن القدرة على التفاوض، والإقناع، وحل النزاعات، هي مهاراتٌ تُعزز سيطرتنا على محيطنا المهني.
أما الهدف الأسمى من فهم دوائر التأثير والسيطرة، فهو صناعة التوازن المهني. هذا التوازن ليس مجرد غياب للتوتر، بل هو حالةٌ من الانسجام بين متطلبات العمل واحتياجات الفرد، بين الطموح والإنجاز، بين الجهد والراحة. إنه فنٌّ يتقنه من يُدرك أن الحياة ليست كلها عمل، وأن العمل ليس كل الحياة.
تبدأ صناعة التوازن المهني بـتحديد الأولويات بشكلٍ واضحٍ ودقيق. فعندما نُدرك ما هو مهمٌ حقًا، نُصبح قادرين على توجيه طاقتنا ووقتنا نحو ما يُحقق أقصى قيمة، ونُقلل من هدرها في ما لا يُجدي. وهذا يتطلب منا الشجاعة لرفض المهام التي تتجاوز قدراتنا، أو لا تتوافق مع أهدافنا، أو لا تُضيف قيمة حقيقية.
ثم يأتي دور تنظيم الوقت بشكلٍ فعال. فالوقت هو أثمن ما نملك، وإدارته بحكمة تُمكننا من إنجاز المهام بفاعلية، وتُوفر لنا مساحةً للراحة والاسترخاء والأنشطة الشخصية. وهذا يشمل تحديد فترات للعمل المركز، وفترات للراحة، وفترات للتعلم والتطوير.
ولا يمكننا أن نُغفل أهمية الاهتمام بالصحة الجسدية والنفسية. فالجسد السليم هو الوعاء الذي يُمكننا من أداء عملنا بكفاءة، والعقل السليم هو الذي يُمكننا من التفكير بوضوح وإبداع. وهذا يشمل الحصول على قسطٍ كافٍ من النوم، وتناول الطعام الصحي، وممارسة الرياضة بانتظام، وقضاء وقتٍ في الطبيعة، وممارسة الهوايات التي تُنعش الروح. إن رعاية الذات ليست رفاهية، بل هي ضرورةٌ قصوى للحفاظ على التوازن والوقاية من الإرهاق.
وفي خضم هذه الرحلة، يجب علينا أن نُدرك أن المرونة هي مفتاح التأقلم مع التغيرات والضغوط. فالحياة ليست ثابتة، وبيئة العمل تتطور باستمرار، والقدرة على التكيف مع هذه التغيرات، والتعلم من التجارب، والتعامل مع الفشل كفرصةٍ للنمو، كل ذلك يُعزز قدرتنا على البقاء متوازنين في وجه التحديات.
كما أن الدعم الاجتماعي يلعب دورًا حيويًا في صناعة التوازن. فوجود شبكة من الأصدقاء والعائلة والزملاء الذين يُمكننا الوثوق بهم ومشاركتهم همومنا وتحدياتنا، يُخفف من وطأة التوتر، ويُعزز الشعور بالانتماء، ويُوفر منظورًا مختلفًا للمشاكل.
في الختام، أيها الأعضاء الكرام، أود أن أُقدم جزيل الشكر وعظيم الامتنان لإدارة هذا الموقع الموقر، على إتاحة هذه المنصة الثقافية الرائعة، التي تُتيح لنا تبادل الأفكار والخبرات، وتُثري النقاشات الهادفة، وتُسهم في بناء مجتمعٍ معرفيٍ مُتميز. كما أُقدم شكرًا خاصًا للأخ القدير أبو تسعة، على جهوده الحثيثة، ومساهماته القيمة، التي تُضيء دروب المعرفة، وتُقدم الفائدة للجميع.
تحياتي / إحساس غالي
#التوتر_المهني #دوائر_التأثير #التوازن_المهني
#إدارة_الضغوط #الصحة_النفسية #بيئة_العمل
#الوعي_الذاتي #التطوير_الشخصي