السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
تحية طيبة مباركة أزفّها إلى إخوتي وأحبّتي أعضاء منتديات ستار تايمز الكرام، وإلى القائمين على هذا الصرح الراقي الذي يجمع بين الفكر، والمعرفة، والذوق الرفيع. تحيّة يملؤها الامتنان، ويزينها الاحترام، على ما تبذلونه دومًا من جهود مضنية في سبيل نشر الفائدة، وإثراء النقاش، وتقديم كل ما هو مفيد وراقي في عالم الكلمة والمحتوى.
موضوعنا اليوم ليس مجرد فكرة عابرة أو حكاية عن موقف يومي يتكرر مع الجميع، بل هو تأمل فلسفي وواقعي في آنٍ واحد، عن أمر يمر به الصغير قبل الكبير، والعالم قبل الجاهل، والمشغول قبل الفارغ، وهو فقدان الأشياء. فمن منّا لم يُصَب بالذهول يومًا أمام اختفاء مفاجئ لمفتاح، أو هاتف، أو ورقة مهمة؟! ومن منّا لم يجرّب مشاعر القلق التي ترافقنا حين يضيع شيء بسيط لكنه مهم في لحظته، فنشعر وكأنّ قطعة من الزمن قد تعطّلت، وجرى فراغٌ في التفاصيل الدقيقة من حياتنا؟
لكنّ الحقيقة العميقة التي أودّ مناقشتها اليوم هي أنَّ العثور على الأشياء المفقودة لا يعتمد فقط على قوة الذاكرة، ولا على الحظ، بل على قاعدة بسيطة، وإن بدت عادية في ظاهرها، إلا أنها تخفي وراءها حكمة عظيمة، وتجربة إنسانية متراكمة تستحق أن نتوقف عندها كثيرًا.
القاعدة التي أودّ طرحها تقول:
"توقّف عن البحث، وستجد الشيء الضائع."
قد تبدو للوهلة الأولى جملةً مناقضة للعقل والمنطق، لأننا نميل طبيعيًا إلى أن البحث المتواصل هو الطريق الأكيد للعثور على المفقود. لكننا إن أمعنّا النظر في الواقع، سنجد أن كثيرًا من الأشياء التي فقدناها لم نعثر عليها حينما كنا في قمة التوتر، والضغط، والانهماك في التفتيش، بل غالبًا ما ظهرت لنا فجأة، في لحظة هدوء، أو حين صرفنا النظر عنها، أو حتى عندما كنا نبحث عن شيء آخر تمامًا.
هذه الظاهرة ليست مجرد مصادفة، بل هي انعكاس لطبيعة العقل البشري، وسلوكنا التلقائي في التفاعل مع التوتر. فحين نضيع شيئًا ونبدأ البحث عنه بشراسة، يتحول عقلنا من نظام التركيز إلى نظام الذعر، ويبدأ في تضييق مجال الرؤية، ويفقد القدرة على الانتباه للتفاصيل. نمر أمام الشيء ولا نراه، نلمسه ولا ندركه، وقد نقلب المكان ذاته مرارًا دون أن نعي أن ما نبحث عنه كان أمام أعيننا طوال الوقت.
العقل المُرهَق لا يرى بوضوح، والنفس المتوترة لا تستوعب، والتعجّل يطفئ ضوء الانتباه، ولهذا تكون النتيجة دائمًا تأخر العثور على الشيء. أما عندما نهدأ، ونُسلّم بأن الأمر قد خرج عن السيطرة، ونمنح عقولنا فرصةً لاستعادة التوازن، تنفتح الرؤية من جديد، وتعود الذاكرة لتعمل بطريقة أهدأ، فيُفتح لنا باب الوصول دون عناء.
هذه القاعدة البسيطة تجد لها أصولًا حتى في العلوم النفسية والسلوكية. فالعقل حين يتوقف عن التركيز المُفرط في أمر معين، يتحوّل من النمط الواعي (conscious mode) إلى النمط اللاواعي (subconscious processing)، حيث تتولّى أجزاء أخرى من الدماغ عملية الربط والتحليل والتذكّر. وهذا هو ما يفسر لماذا نجد المفقود عندما لا نكون في حالة بحث. إننا في الحقيقة لا نتوقف عن البحث، لكننا نغيّر طريقة البحث، ونسمح للعقل الباطن أن يدخل على الخط.
ولعلّ أحد أبرز تجليات هذه القاعدة هو أن الأشياء لا تضيع غالبًا في أماكن غريبة، بل في أماكن مألوفة. نحن فقط نكون في عجلة من أمرنا حين نضعها، أو في لحظة شرود، فننساها. ولهذا، فإن إعادة بناء المشهد الذهني لما كنا نفعله قبل فقد الشيء، والتفكير في آخر موقف استخدمنا فيه ذلك الغرض، غالبًا ما يعيدنا إلى النقطة التي فقدناه فيها.
والأمر لا يقتصر على الأشياء المادية فقط. بل قد تنطبق هذه القاعدة على أشياء رمزية أيضًا: كالأفكار، والذكريات، والإجابات. كم مرة نسينا كلمة نبحث عنها؟ أو فكرة كانت على طرف اللسان؟ وحين استسلمنا، وأبعدنا تفكيرنا عنها، قفزت فجأة إلى الواجهة من جديد.
وما أجمل أن نستلهم من هذه القاعدة سلوكًا حياتيًا أكثر هدوءًا واتزانًا. حين نفقد شيئًا، أو حين نواجه موقفًا غامضًا أو مربكًا، لنجرب أن نتوقف، أن نهدأ، أن نراقب بدلاً من أن نهرول. لأن كثرة الحركة لا تعني دائمًا الوصول، وكثرة البحث لا تعني دائمًا النجاح.
إن هذه القاعدة تعلّمنا درسًا أعظم في الحياة: أن الهدوء في الأزمات، والصبر في التوتر، والسكينة في لحظات الضياع، ليست علامات ضعف، بل مفاتيح للحل. بل لعلّها تعلّمنا كيف نرى أنفسنا من جديد، لا كمجرد كائنات تتفاعل بعشوائية، بل كعقول راشدة تستطيع أن تنظّم الفوضى، وتستعيد المفقود، لا حينما تضرب على الطاولة، بل حينما تضعها جانبًا.
وفي النهاية، ليس المطلوب أن نُقلّل من أهمية البحث أو نسخر من الحاجة إلى النظام، ولكن أن نتعلّم متى نُمسك، ومتى نُفلت. متى نضغط، ومتى نترك المجال للعقل أن يُعيد ترتيب الصورة من تلقاء نفسه.
تحية شكرٍ وعرفانٍ أبعثها لإدارة منتديات ستار تايمز الكريمة، وللموقع الجميل الذي منحنا مساحةً لنتبادل فيها الفكر والتجربة، ولكل أخٍ عزيز شاركنا هذه الرحلة التأملية الصغيرة في عالم الأشياء التي تضيع، لكنها لا تختفي.
تحياتي / إحساس غالي
#فقدان_الأشياء #هدوء_العقل #مهارة_البحث #الإدراك_الذهني
#التوتر_والنسيان #العقل_الباطن #استعادة_المفقود
#تجارب_واقعية #الفوضى_والنظام