السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وطيّب الله أوقاتكم أيها الأعضاء الكرام بما يسرّ القلوب ويشرح الصدور. أبعث إليكم هذه الرسالةَ من ضفاف المحبة الخالصة، متّكئًا على يقينٍ بأنّ لقاء العقول في رحاب منتدانا هو من أبهى صور العطاء المعرفي، فقد صار هذا المنبرُ بيتًا فكريًّا يجمعنا تحت سقف الاحترام والفضول العلمي، ويُطوِّقنا بهالةٍ من نور المدارك المتَّسعة. في هذه اللحظات، نتأمّل معًا «التعليم الجامعي» لا باعتباره محطةً عابرة في رحلة العمر، بل بوصفه جسرًا شاهقًا بين ضفّتَي الجهل والمعرفة، وبين سذاجة الطموحات الأولى ونضج الرؤى التي تتطلّع إلى إعادة صياغة العالم على أُسُسٍ أكثر عدلًا ورُقيًّا.
أيها الأحبة، إنّ التعليم الجامعي ليس مجرَّد قاعاتٍ يُسجَّل فيها الحضور والغياب ولا مناهجَ تُلقَّن للناشئة، بل هو مسرحٌ تُمثَّل عليه قصص التغيير العميق. في ردهاته تتلاقى الثقافات وتتناكح الأفكار؛ هناك حيثُ تُكتَبُ أبجديةُ المستقبل بحروفٍ من نور الاجتهاد وعرق السّهر على دفاتر البحث وغرف المختبرات. الجامعة ليست بناية من إسمنت وحجر لكنها مجتمعٌ نابضٌ، تقف خلف بوّاباته أحلامٌ جاشت في خواطر الفتيان، وقلوبٌ تتطلّع إلى فضاءاتٍ أرحب من المحدود والمستعار. وما اللغة الأكاديمية إلا مفتاحٌ يفتح لهم نوافذ غير معدودة على حدائق الفكر الإنساني الممتد من أرسطو إلى أينشتاين، ومن الخوارزمي إلى هوكينغ.
لقد اكتسب التعليم الجامعي معانيَ جديدة في زمنٍ تتسارع فيه المعارف كما تتبدّل خرائط القوة على رقعة الشطرنج الدولية. صرنا نرى جامعاتٍ تنثر برامجها عبر الأثير الرقمي، فتغدو المحاضرةُ الضخمةُ مفتوحةً لمن أراد من أقاصي الأرض، وصار الأستاذُ مرشدًا ومدرِّبًا أكثر من كونه ملقِّنًا جامدًا. ولم يعد الطالبُ مجرّد متلقٍّ، بل غدا شريكًا في إنتاج المعرفة، يكتبُ أبحاثَه بلغةٍ تُشعِل النقاش، ويقدّم مشاريعَه لريادة أعمالٍ تُغيّر وجه الاقتصاد الأخضر، وتترجم ابتكاراته إلى حلولٍ يلمسها المجتمع. وأمام هذه التحولات، تلوحُ ضرورة أن تتحرّر الجامعات من أسر النظرة التقليدية التي تقصر رسالتها على توزيع الشهادات؛ فالشهادات لا تُطعم فكرًا إن بقيَ العقلُ مستعبدًا لموروثٍ لا يُمحّص ولا يُنقّح. المعرفة الحقّة هي التي تُصقل الشخصية، توقظُ حسَّ المساءلة، وتغرس في الإنسان بوصلةً أخلاقيةً لا تنحرفُ أمام إغراء المنصب ولا بريق الثروة.
أيها الإخوة والأخوات، لا بد أن نُصغي إلى أصوات الطلبة وهم يسائلون مقرّراتٍ تكرِّر نفسها عقدًا بعد عقد، في عالمٍ يبدّل برمجياته كلَّ أسبوع. كيف لجامعاتنا أن تبقى أسيرةَ كتبٍ صفراء إن كانت الشركاتُ الناشئةُ حولها تُصنِّع غدًا اصطناعيًّا بطابعاتٍ ثلاثية الأبعاد؟ إنّ الزمن الذي تتحكّم فيه معادلة «مقعد دراسي + محاضرة = خريج صالح لسوق العمل» قد ولى. السوق نفسه بات مفهوماً نسبيًّا؛ إذ تظهر قطاعات وتختفي أخرى بوتيرة لا تبقي للركود موضعًا. من هنا تنبع الحاجة إلى غرس مهارات التفكّر النقدي والتعلّم المستمر والابتكار التعاوني. إنّ التخصصات البينية، تلك التي تنسج الخيوط بين الهندسة والطب، أو تجمع الفنون بالذكاء الاصطناعي، لم تعد ترفًا أكاديميًّا بل صارت صمامَ أمانٍ ضد البطالة الفكرية.
ولْنُصارح أنفسنا: التعليم الجامعي مكلفٌ زمنًا وجهدًا ومالًا، لكنّ كلفته الكبرى لا تُقاس بالعملة الصعبة بل تُستشفُّ من ضياع الفرص إن هو فشلَ في أداء رسالته. أن يفشل خريجٌ في توظيف علومه في إصلاح خللٍ اجتماعيٍّ أو اقتصاديٍّ فذلك فشلٌ للمنظومة بأسرها؛ أن يظلّ بحثٌ مكتوبٌ بالحبر حبيس الأدراج ولا يتحوّل إلى براءة اختراعٍ أو سياسةٍ عامةٍ أو روايةٍ تُثري وجدان الأمة هو خُسْرانٌ لا تحصيه دفاتر المحاسبين. ومن أجل تلافي هذا الضياع، ينبغي أن تعقد الجامعات مواثيقَ مع القطاعات المختلفة، فيصبح الطالبُ متدرِّبًا منذ عامه الأول، ويغدو الأستاذُ مؤتمنًا على ربط النظرية بالتطبيق، ويصيرُ الحرم الجامعيُّ مختبرًا اجتماعيًّا ينفض الغبار عن مشكلات الفقر والبيئة والصحة.
أيها الأفاضل، إذا كانت الجامعةُ مصباحًا يُضيءُ الدرب، فإن الدرب يمتدُّ إلى ما بعد التخرّج. فالتعليم العالي لا يكتمل يوم تسليم الشهادة بل يعيشُ في تجددٍ دائمٍ كلما جلسَ الإنسانُ أمام شاشةٍ يتعلّم لغةَ برمجةٍ مستحدثة، أو يحضر ندوةً عن الأبحاث السريرية، أو يُشاركُ في دورةٍ حول أخلاقيات الذكاء الاصطناعي. نحن نبحرُ في زمنٍ لم يعد يَعِدُ بالأمان الوظيفيّ الدائم، لكنه يَعِدُ بالفرص لمن يتقنُ فنّ اللحاق بقطار التجديد. فكم من موظفٍ كان مطمئنًّا إلى كرسيه، فإذا بالثورة الرقمية تُزحزحُ الكراسي من تحت أصحابها إلا من رفد نفسه بالمهارات التكميلية. الجامعةُ الناجعة إذن هي مدرسةُ التعلم مدى الحياة، وهي التي تُري طلابها كيف يقفون على أطراف أصابعهم الفكرية لكي يظلوا أطولَ من التحديات، وأقدرَ على بلوغ ثمار المستقبل المعلَّقة.
لا يفوتني أن أستحضر بسطور المحبة هنا دورَ الهيئة الإدارية التي سهرت لتجعل من هذا المنتدى مساحةً مبهجةً للتبادل المعرفي، وأُثمِّنُ تفاني المشرفين الذين يمسحون غبار العشوائيات ويهيئون لنا صفحاتٍ مصقولةً كمرآةِ الروح نستطيع فيها إعادة النظر في أفكارنا. وأخصّ بالشكر أخًا كريمًا ما بَخل يومًا بتوجيهٍ سديدٍ أو كلمة تحفيزٍ تُوقِدُ شمعةً في قلبِ باحثٍ يافع. بكم تزدهر المجالس الفكرية، وبفضل روحكم التعاونية تثمر الحواراتُ سنابلَ حكمةٍ تسندُ أكتاف الأجيال القادمة.
أيها الأصدقاء، إنّ التعليم الجامعي ليس سلعةً تُباع وتُشترى، كما يُراد لنا أن نرى في أسواق التصنيفات العالمية حيث يختزل التميّز في الدرجات والأرقام. التعليم رسالةٌ تُفنى فيها الأعمارُ لصناعةِ إنسانٍ أرقى، ووطنٍ أبهى، وحضارةٍ أسمى. من حقّ الطالب على جامعته أن يحسَّ بالأمان النفسي وأن يجد في أروقتها عدالةً تكافئ الجهد وتفتح أبواب المنح لمن يستحقّ، ومن واجب الجامعة على طلابها أن تعرِّفهم بحدود العقل وتمدَّهم بجسرٍ إلى ما وراء تلك الحدود، حيث تتلاقى الفلسفة بالعلم، ويغدو سؤال «لماذا؟» أساسًـا لكل ابتكار. إنّ المواطنةَ العالمية التي نصبو إليها لا تُمنح بمرسومٍ ولا تُشترى بتذكرة سفر، وإنما تُبنى لبِناتها في مختبر التفكير الناقد والحوار المسؤول داخل الحرم الجامعي.
لقد شهدنا في العقود الأخيرة إقبالًا متزايدًا على التخصصات التطبيقية بدعوى أنّ السوق عطشى للمهندسين والتقنيين، فغابت – أو كادت – الإنسانياتُ التي تصقل الروح وتبذر فينا القدرة على قراءة التاريخ والذات والآخر. وما نراه اليوم من شُحّ التعاطف في الخطاب السياسي والاجتماعي هو ثمنُ تلك الفجوة القاتلة بين العلم والإنسانية. الجامعة الحقيقيّة هي التي تعقد قرانًا شرعيًّا بين الكلية الهندسية وكلية الآداب، فتتزوّج الأرقامُ بالكلمات، ويتوالد من ذاك الزواج جيلٌ يُتقن تركيب الأقمار الصناعية ويكتب في الوقت ذاته قصيدةً عن تلك النجمة التي يهديها إلى وطنه.
أحبتي، بينما نرفع رؤوسنا بإعزاز إلى إرثنا العلمي، لا ينبغي أن يغيب عنّا وجهُ العدالة في توزيع فرص التعليم العالي. فثمة شبابٌ تحاصرهم الحدود الجغرافية أو يقهرهم العَوْزُ الماليّ، فينطفئ في صدورهم وهجٌ كاد أن يضيء لهم ولغيرهم. هذه مسؤوليةُ المجتمع بأسره: أن يمدّ يدًا تُعين، وأن يفتح منحةً تتبنّى موهبةً عصيّةً على الفناء. فالعبقريةُ إن حُرمت من مكبّر صوتٍ جامعيٍّ ستختبئ في زوايا المهمّشين، وستبقى طاقتها كامنةً مثل نجمٍ بعيد لا يصلنا ضوؤه. وفي المقابل، علينا أن نصوّب بوصلةَ التوجيه المهنيّ حتى لا يقدّم التعليمُ الجامعي فائضًا من تخصصاتٍ مشبعةٍ وتتراكم صفوف البطالة. الإصلاح هنا يستوجب شراكةً حقيقيةً بين الوزارات والقطاع الخاصّ والمجتمع المدنيّ، تُرفدها بياناتٌ دقيقةٌ حول توجهات المستقبل.
إنّي أدعوكم إلى تأمّلِ قيمة العِلم لذاته قبل فائدته المادية؛ فكم وُلدت نظرياتٌ ملأت عيونَ العلماء دهشةً دون أن يلوح لهم تطبيقٌ يُغري المستثمرين، ثم انتظرت عقدًا أو اثنين لتغدو أساسًا لتقنياتٍ غيرت وجه الحياة. فالعِلم زهرةٌ لا تصفرّ حين لا تُقطف حالًا، بل تظلّ تُخصِّب التربةَ حولها في هدوءٍ حتى يحين موسمُ الحصاد. فلنحمِ الجامعات من فخِّ «تعظيم العائد الماليّ السريع» على حساب «تعميق المنهج وإثراء الخيال».
قبل أن أختتم، أستحضر صورةَ طالبٍ يسهر على مشروع تخرّجه، يئنُّ مع كل معادلةٍ غير مستوية، لكنّه يتذكّر فجأةً أن قلبه يخفق بحلمٍ أكبر من الدرجات؛ حلمٍ بأن يترك بصمته في واقعٍ يرزح تحت أوزار الجهل. وفي اللحظة التي يوقّع فيها على نسخة أطروحته، يكون قد وقّع في حقيقة الأمر على عقدٍ أبديّ مع الأمل. وتلك هي رسالة الجامعة: أن تكشف للطالب أنّ توقيعه في أسفل الصفحة ليس نهايةَ الرواية بل بدايتُها.
ختامًا، أجدّد شكري للإدارةِ الموقرة التي أرست قواعد هذا الصرح المبارك، وجزيلَ الامتنان لطاقم الإشراف الذي يُعبِّد لنا طرق النقاش بأناةٍ وحكمة، ووافرَ التقدير للأخ العزيز الذي لا يتوانى عن مدّ يد الإعانة لكل طالب معلومة. بروحكم تزدهر المجتمعات الافتراضية، وبفكركم يعلو منسوب الجمال المعرفيّ في فضاء الإنترنت، فتغدو الشاشةُ أكثر إنسانيةً واتساعًا.
تحياتي / إحساس غالي
#التعليم_الجامعي #بناء_العقول #مستقبل_الشباب #شراكة_المعرفة
#جامعة_رقمية #تعلم_مدى_الحياة #مهارات_المستقبل
#ابتكار #هوية_علمية