السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
وتحية طيبة مباركة إلى إخوتي الأعضاء الكرام، وإلى القائمين على هذا المنتدى الطيّب، من إدارة ومشرفين وأعضاء فاعلين، ومنابر علم ووعي، ومنارات صدق ومحبة. وبعد...
ها نحن نواصل معكم، وبهمّة لا تلين، دروب التأمل والتدبر في كتاب الله عزّ وجلّ، وفي سلسلة الآيات القرآنية التي وردت فيها لفظة "إسرائيل"، ذلك الاسم الذي حُفِر في سياقات قرآنية متعددة، متقاطعًا مع سير الأنبياء، ومعاناة الأمم، ومواقف العقيدة والسلوك. ونقف اليوم عند الآية الرابعة في هذه السلسلة المباركة، ألا وهي قول الله تعالى في سورة البقرة:
﴿ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ [البقرة: 122]
وما أعمقها من آية، وما أبلغها من خطاب، وما أوسع ما تنفتح عليه من دلالات ومعانٍ، تربط بين الماضي والحاضر، بين فضلٍ أنزله الله على قوم، وتذكيرٍ بما حملوه من مسؤولية، وبين عقابٍ لاحق من جنس النكران والجحود...
إننا أمام نداء رباني كريم، "يا بني إسرائيل"، وقد تكرر هذا النداء مرارًا في القرآن الكريم، لا من باب تكرار الحكاية فحسب، بل من باب التأكيد على التذكرة، والوقوف على مواضع النعمة والجحود، والتبيين للأمة المحمدية كيف تتعامل مع سنن الله في التاريخ.
"اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم"... نداء يحمل معنى الأمر والرجاء، والتنبيه والتحذير. فذكر النعمة هو أول درجات الشكر، والشكر هو مفتاح الحفظ والزيادة، والتمادي في النسيان هو مبدأ العقاب والخذلان.
لقد أنعم الله على بني إسرائيل بنعم لا تُعد ولا تُحصى، من النبوة التي توالت فيهم، والكتب السماوية التي نزلت عليهم، والتمكين في الأرض، والنجاة من العدو، والرزق من الطيبات، والنصر بعد الضعف، والهداية بعد التيه. فهل أدّوا حق النعمة؟ هل وقفوا عند حدود الشكر والطاعة؟ أم أنهم بدلوا نعمة الله كفرًا، وأعرضوا عن أوامره، وقتلوا أنبياءه، ونقضوا عهوده؟
هنا تتجلّى عظمة الآية في أنها لا تُخاطبهم فقط، بل تخاطبنا نحن أيضًا، أبناء هذه الأمة، لنتّعظ، ونتأمل، ونتبصر. فالقرآن ليس كتاب تاريخ، بل هو كتاب هداية حيٌّ إلى يوم الدين. كل خطاب فيه هو رسالة لنا، كل قصة هي عبرة، وكل نداء هو تنبيه.
"وأني فضّلتكم على العالمين"... نعم، لقد فضّلهم الله في زمانهم على سائر الأمم، لحكمة أرادها، واصطفاهم لحمل الرسالة، وأكرمهم بالشرائع. لكن هذا التفضيل لم يكن امتيازًا أبديًّا، ولا عصمة قومية، بل كان مشروطًا بالإيمان والعمل والوفاء بالميثاق. وما أن خالفوا وأفسدوا واستكبروا، حتى زال عنهم هذا التفضيل، وانتقلت الرسالة إلى أمة جديدة، تقوم على التقوى لا العرق، وعلى الطاعة لا العنصر، وعلى اتباع النبي الخاتم لا الانتساب الجغرافي.
وما أعظم المفارقة بين فضلٍ أُعطي لقوم ثم زال، وأمة خُتم بها الله الرسالات، وجعلها خير أمة أُخرجت للناس بشرط القيام بالأمر والنهي والإيمان الصادق.
هذه الآية الكريمة، في بساطتها الظاهرة، تحمِل في طيّاتها دروسًا في العقيدة، وأحكامًا في السلوك، ورسائل في السياسة والدين والتاريخ. وهي دعوة لكل أمة وكل فرد أن يتأمل: ما موقفه من نعم الله؟ أهو من الذاكرين أم من الغافلين؟ أهو من الشاكرين أم من الجاحدين؟ لأن النعمة إن لم تُشكر، تحولت إلى نقمة، وإن لم يُصن فضل الله، سُلب وأُعطي لغيرك.
وقد نبّه المفسرون إلى أن هذه الآية فيها إعادة لما سبق في الآية رقم 47 من نفس السورة، وهي قوله تعالى: ﴿ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾، ولكن التكرار هنا ليس حشوًا، بل هو تثبيت لمعاني النعمة والتفضيل، تمهيدًا لما سيأتي بعده من محاكمة قرآنية طويلة لبني إسرائيل في السورة، تبيّن خيانتهم للعهود، وتحذّر المسلمين من أن يسلكوا نفس المسلك.
ويُلاحظ أن القرآن كثيرًا ما يُكرّر أسماءً وأحداثًا ومواقف، ولكن كل موضع يحمل نغمة خاصة، وسياقًا جديدًا، ورسالة مستقلة. ولذلك، فإن تكرار هذا النداء هو إشارة إلى أن ذكر النعمة يجب أن يتجدد مع تجدد الغفلة، ويُكرّر مع تكرار الخطايا، ويُرسّخ في القلوب حتى لا تتلاشى مع زخم الحياة.
وما أجمل أن نقف عند هذه الآية ونحن نعيش في زمن طغت فيه الماديات، وغابت فيه نعمة الذكر، وتاهت فيه كثير من النفوس بين الكفر بالنعم، ونكران الجميل، وغياب الشكر.
كم من الناس اليوم يعيشون في وفرة، لكنهم لا يذكرون الله؟ كم من الأمم أُنعِم عليها بالأمن، والغذاء، والعلم، ولكنها بدّلت شكر النعمة بتمرد على القيم، وابتعاد عن طريق الهداية؟ إنّ مصير بني إسرائيل حين غفلوا عن شكر الله هو إنذار لكل من يسير على ذات الدرب.
وقد جاء في تفسير الطبري رحمه الله، أن هذه الآية هي دعوة للاستذكار والتفكر، وتحذير من التمادي في الإنكار، وإشارة إلى أن النعم لا تدوم إلا بشكرها، وأن التفضيل لا يكون مبررًا للغرور، بل مسؤولية مضاعفة في الطاعة.
وفي تفسير ابن كثير، تأكيد على أن هذا التذكير هو حجّة عليهم يوم القيامة، لأنه لا عذر لمن ذُكّر مرارًا، ونُبه إلى الفضل والنعمة، ومع ذلك أبى واستكبر.
وها نحن اليوم نقرأ الآية، ونعلم أن الرسالة انتقلت إلى أمة محمد ﷺ، وأن الله أعطانا من النعمة والفضل ما لم يُعط أحدًا من قبل، فهل نذكر نعمته؟ هل نحفظ الرسالة؟ هل نؤدي الأمانة؟ أم نُعيد مشهد بني إسرائيل في عصيانهم، فيكون مآلنا كمآلهم؟
إنها وقفة محاسبة، ودعوة للتأمل، وسؤال يجب أن يطرحه كل واحد منا على نفسه:
هل أنا من الذاكرين أم من الغافلين؟ هل أنا ممن إن أُعطي شكر، وإن ابتُلي صبر، أم أنني ممن إذا أُنعم عليه نسي المُنعِم، وإذا أُخذ منه شيء سبّ وقدح؟
ثم لا ننسى أن هذه الآية هي جزء من سورة البقرة، السورة التي تُعد "دستورًا تربويًّا" لبناء الأمة الإسلامية، والتي وضع الله فيها نماذج متعددة من الأمم السابقة لنتعلّم منها لا لنكررها، ولنتجنب أخطاءها، لا لنقع فيها. وكل آية فيها ليست مجرد درس لغوي أو تاريخي، بل هي رسالة مباشرة إلى قلب المؤمن، يُستخرج منها التوجيه، ويُبنى عليها الفقه في التعامل مع النفس والناس والحياة.
وختامًا، فإن الآية الكريمة ﴿ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾، هي أكثر من خطابٍ تاريخي، هي بوابة لفهم سنن الله، ونافذة نطل منها على حال أمتنا، ومرآة ننظر فيها إلى أنفسنا، هل نحن على نهج الشكر؟ أم على درب النسيان؟
فليكن القرآن رفيقنا في التأمل والتطبيق، لا في الحفظ والترديد فقط.
ولنحمل رسالته في قلوبنا وسلوكنا، قبل ألسنتنا.
وشكرًا جزيلًا للإدارة الكريمة على إتاحة هذا الفضاء المبارك للنقاش والتدبر، وجزيل الامتنان للأخوة الذين يقرأون ويشاركون ويُثرون الفكر والرؤية.
تحياتي / إحساس غالي
#القرآن_الكريم #بني_إسرائيل #تفسير_القرآن #سورة_البقرة
#التدبر_القرآني #نعمة_الله #سلسلة_إسرائيل
#بلاغة_القرآن #دروس_التاريخ