إقتباس لمشاركة: @العقل الحدسي 23:19 - 2025/05/19
ما علاقة العطاء اللامشروط بالتحقق من سبب الفقر ؟ هل أحتاج أن أعرف سبب الفقر حتى أعطي للفقير ؟
أعتقد أنه تكفي معرفة احتياج شخص فقير في وجوب العطاء له .. و أيضا المكلف بالعطاء هو الغني و لا يعطي الفقير للفقير
و قولي بتجنب الحكم بالظاهر ينحصر في تفسير سبب الفقر .. لأن الذين يحكمون بالظن يقولون أن الفقير هو السبب في إفقار نفسه مع أن هذا مجانب للحقيقة .. فإنه عقلا و منطقا لا أحد يختار الفقر .. فالجميع يحبون الغنى و المال .. و بالتالي غنى أشخاص و فقر أشخاص آخرين له أسباب .. لأنه من منظور الله الجميع متساوون و حصول الفوارق هو الشيء غير الطبيعي .. و لذلك من يبدو فقيرا في المحسوسات و في الظاهر هو غني في الباطن و في النفس و العقل .. لكن هناك عقائد و تقاليد مجتمعية ظالمة و فاسدة استرخصت الجوهر على حساب المظهر و قدست الظاهر و المتاع الحسي حتى ظن الأغنياء أن أموالهم قادرة على شراء كل شيء و لكنهم لم يحزروا و ظلموا و طغوا في الأرض مثلما طغى من قبلهم كثيرون و انتهوا نهاية بائسة ذليلة فلم تغنهم أموالهم و لم تستطع أن تشتري لهم الحب و الإخلاص و الحياة الطيبة المباركة .. كنزوا و حصلوا أموالا بلا أي قيمة روحية .. لذلك قد تجد أشخاصا عاشوا في أكواخ و رغم قلة الزاد إلا أنهم أسعد حالا من أغنياء عاشوا في القصور بسبب الإفتقار إلى البركة في الرزق .. فكثير من الأغنياء عاشوا معظم حياتهم في ركض و مطاردة المال لكنهم لم يسعدوا قط بذلك المال بل ماتوا و هم على ركض خلف ذلك المال و في النهاية استفاد منه أبناؤهم و ورثتهم و أصبح ملكا لآخرين .. و هذه هي عدالة الله يوزع أرزاقه بشكل يحير العقول .. و خير الأرزاق كلها هو الروح الصافية القنوعة المدركة جيدا لجميع أسرار البركة في الحياة
أرجو المعذرة أخي الكريم لكنني أجدني مضطرا للتوقف عند بعض ما ورد في ردك الذي رغم جماله الأدبي إلا أنه من وجهة نظري يحمل تناقضات منطقية وتشويشا فيما يتعلق ببعض المفاهيم الدينية والاجتماعية. وأتصور أنه ما دمت قد طرحت موضوعك للنقاش فأنت على استعداد مسبق لتقبل الرأي والرأي الآخر 😃
أهلا بك أخي و بالرأي الآخر فأنا أحب سماعه بالطبع و مناقشته و كثيرا ما أرى الفائدة فيه
سأبدأ بسؤالك .. "ما علاقة العطاء اللامشروط بالتحقق من سبب الفقر ؟ وهل أحتاج أن أعرف سبب الفقر حتى أعطي للفقير ؟"
في الحقيقة، نعم، تحتاج أن تتحقق من حالته، لا لأنك تشكك في نيته، بل لأن الإسلام ذاته أمر بذلك في أبواب الزكاة والصدقة.
قال تعالى: {للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا} [البقرة: 273].
وهذا يدل على أن هناك تمييزا دقيقا بين من يستحق ومن لا يستحق، وأن الظاهر قد يضلّل، لذلك فالعطاء في الإسلام مبني على معرفة أو قرينة معتبرة، لا على العاطفة المجردة.
بصراحة لأول مرة أقرأ بأن التحقق من سبب الفقرهو شرط من شروط الإعطاء للفقير
و كأن الذي لا يمتلك سببا مقنعا يستحق أن يترك للجوع و التشرد حتى و لو كان بإمكاننا مساعدته
و هذا التحقق لست مقتنع به بصراحة فلو كنت غنيا مثلا لا يهمني ِأن أتحقق من السبب الحقيقي للفقر
بل يهمني أن أتحقق من صحة الفقر فحسب و هذا كاف بالنسبة لي لكي أشعر بأنني أعطي للمستحق الحقيقي و ليس للمزيف و المتظاهر بالفقر
أما "العطاء اللامشروط" بمعناه المطلق، فهو غير دقيق شرعا، لأن حتى الزكاة – وهي حق الفقير – مشروطة بـ8 أصناف وبشروط كثيرة.
والصدقة، وإن كانت تطوعية، فلها ضوابط أخلاقية، منها أن لا تكون تبذيرا، ولا إعانة على كسل أو فساد.
فكيف نجعل ما هو مقيد شرعا وواقعيا، مطلقا من كل شرط أو تحقيق ؟!!
أظنك لم تفهم المعنى الحقيقي لجملة ( العطاء اللامشروط ) .. فاللامشروطية هنا هنا تخص المعطى له و ليس المعطي
فالفقير الحقيقي له شعور استحقاق عالي في كونه يستحق أن يقبض عطاءا مجانيا بدون أن يتم مطالبته بعطاء مماثل لأنه غير جاهز بعد للعطاء
و اللامشروطية تعني أن لا أبتز المعطى له و أن لا أستعمل عطائي له في التلاعب به و املاء شروطي عليه و تقييده أو التمنن عليه
ينبغي أن يكون العطاء صادقا نابعا من القلب بدون انتظار أي شيء و أي مقابل من المعطى له
لأن المعطي غني قادر على العطاء و الفقير المعطى له فارغ لا يستطيع العطاء
هي معادلة واضحة لمن يدقق
ثانيا .. القول بأن "الفقير لا يمكن أن يكون سبب فقره” هذا تعميم عاطفي لا يصمد أمام الواقع.
صحيح أن هناك فقراء مظلومين، لكن في المقابل، هناك من يعيش فقرا ناتجا عن قراراته هو كالتبذير أو الكسل أو الإدمان أو رفض العمل المتاح أو سوء التدبير وغيرها.هل هؤلاء كلهم بلا مسؤولية ؟ هل مجرد فقر الإنسان يجعلنا نعفيه من أي مراجعة ؟
نعم لا مانع في مراجعته و فهم سبب فقره الحقيقي لكن حتى لو اتضح أن سبب فقره غير مقنع لنا
فهذا ليس مبرر لمنعه من العطاء طالما أننا نستطيع إعطاءه و إنقاذه
ثم لاحقا بعد رفعه قليلا نبحث عن حلول له و نعلمه طرق كسب المال الحلال
بل حتى في الآخرة، يحاسب الإنسان على سعيه، لا على فقره أو غناه. قال تعالى: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} [النجم: 39].
فلا يصح إلغاء دور الإنسان في حالته، بحجة أن "لا أحد يختار الفقر".
نعم، لا أحد يرغب فيه، لكن كثيرين يختارونه ضمنا حين يتخلّون عن الأخذ بالأسباب.
أنا شخصيا أعرف أن هناك شخصيات مظلومة في هذا العالم لم يختاروا الفقر و لكنهم بالفطرة و بالخلقة غير مؤهلون للمال
ليس لهم أي وعي بالمال .. و كأقل تقدير لا يطورون وعيا ماليا حتى بلوغ سن 35 فما فوق ..
ثالثا .. تقول بأن الفقير غني في "الباطن"، بينما الغني محروم رغم ماله. هذا أخي الكريم فيه تناقض داخلي .. فمن جهة، تطالب الأغنياء بالعطاء للفقير لأنه "محروم”، ومن جهة أخرى، تبشر الفقير بأنه سعيد روحانيا وغني باطنيا، وأن الغني هو المحروم الحقيقي!!!
فهل الفقير إذا محتاج إلى عطائنا، أم هو أسعد حالاً وأغنى روحا ؟
إذا كان غنيا بباطنه، فلماذا يصوّر دائما كضحية ظلم تحتاج إلى تعويض ؟
ما أعرفه أن هناك أربع أنواع بحسب نوع الغنى
الأول فقراء باطن و ظاهر معا
الثاني فقراء باطن و أغنياء ظاهر
الثالث أغنياء باطن و فقراء ظاهر
الرابع أغنياء باطن و ظاهر معا
و النوع الأكثر استحقاقا من بين هؤلاء هو النوع الأول و يليه النوع الثالث
أما البقية فليس لهم استحقاق إلا إذا أراد غني الظاهر أن يشتري غنى الباطن ببيع الظاهر
الحق أن لا الغِنى مذموم لذاته، ولا الفقر ممدوح لذاته.
بل الميزان هو التقوى والعمل الصالح والسعي على قدر المستطاع.
وقد كان من الصحابة أغنياء كبار كعبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان، وكان فيهم فقراء صالحون، ولم يكن أحدهم يتباهى لا بفقره ولا بغناه، بل بعمله.
رابعا .. قلت إن "الله خلق الناس متساوين، والفوارق غير طبيعية"، وهذا فيه خلط بين العدالة والمساواة المطلقة.
الله عدل، نعم، لكنه لم يخلق الناس متماثلين. قال تعالى: {نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا} [الزخرف: 32].
الفوارق بين الناس جزء من سنة الله، وهي ابتلاء للطرفين : الغني في إنفاقه وعدله، والفقير في صبره وسعيه.
أختم بالقول إن الرحمة لا تعني الفوضى والتعاطف لا يلغي الحكمة. فالعطاء مطلوب، لكن بضوابط. والفقر قد يكون ابتلاء، نعم، لكنه أحيانا كثيرة يكون نتيجة اختيارات.
فلا ينبغي أن نعمم، ولا أن نصور الفقير دائما كضحية لا مسؤولية له، ولا أن نحمل الغني ذنب تفاوت الأرزاق وكأن امتلاك المال جريمة.
أرجو المعذرة على الاستفاضة في الرد وسعيد أيما سعادة بهذا السجال الفكري الراقي 😃