وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
أسعد الله أوقاتكم بكل خير، إخوتي الكرام، وحيّاكم الله وبياكم في هذا الصرح الطيب، الذي يجمع بين عذوبة الفكر وبهاء الكلمة، وبين صدق الطرح ونبل الغاية، في منتدى يتنفس المعرفة، ويُعانق القيم، ويحتضن المعاني النبيلة.
أيتها الأرواح الباحثة عن النفع العام، وأيها الأقلام المتوقدة بحب الخير، دعونا نُبحر معًا في موضوع من أسمى الموضوعات، وأطهرها مغزى، وأبلغها أثرًا: "أهمية التكافل الاجتماعي في التنمية المستدامة"، حيث يتقاطع وجدان الإنسان مع احتياجات أخيه الإنسان، فتولد منظومة راقية، تُعلي من قيمة العدل، وتُعزز مبدأ التراحم، وتُسهم في ترسيخ التنمية العادلة التي لا تستثني أحدًا، ولا تهمش ضعيفًا، ولا تُقصي فقيرًا.
أيها الإخوة الأعزاء،
ما من مجتمع استطاع أن ينهض ويستقر ويستمر، إلا وكان التكافل الاجتماعي عموده الفقري، وجوهر بنائه الأخلاقي، وأداته الأهم في تحقيق الازدهار الشامل.
ولأن التنمية المستدامة لم تعد مجرد مفهوم اقتصادي أو بيئي، بل أصبحت فلسفة شاملة تمس جوهر الحياة الكريمة، كان لا بد أن نقف طويلًا عند الركيزة الأسمى لها: الإنسان، وكيفية تمكينه، ومساندته، وتحقيق العدالة له، من خلال شبكة متينة من التكافل والتعاون والتعاضد.
التكافل الاجتماعي ليس ترفًا نظريًا ولا فعلًا خيريًا جزئيًا، بل هو مبدأ أصيل في صميم البنيان الحضاري والاقتصادي والسياسي لأي مجتمع يسعى للنهضة. فحين يتكافل الناس فيما بينهم، تتوزع الأعباء بعدل، وتُردم الفجوات الاجتماعية، وتُخمد نيران الحقد الطبقي، ويولد الأمل في قلوب المطحونين، وتُفتح آفاق النمو للجميع، لا لفئة دون أخرى.
التكافل لا يُقاس فقط بما يُعطى من أموال، بل بما يُبذل من وقت وجهد وفكر ومواقف، فكل إنسان قادر على أن يكون لبنة في جدار الخير.
أليس عونُك لكبيرٍ في السنّ على عبور الطريق صورة من صور التكافل؟ أليس تعليمُك لابن جارٍ لا يستطيع تحمل تكاليف التعليم تكافلاً؟ أليس ابتسامتك لمن ضاقت عليه الحياة، تكافلاً نفسيًا وروحيًا؟ فالتكافل الاجتماعي ليس محصورًا في الجمعيات والمؤسسات، بل هو سلوك يومي، وفطرة خُلقنا عليها، ورسالة عُمرنا بها.
إن التنمية المستدامة، بما تحمله من أبعاد اقتصادية وبيئية واجتماعية، لا يمكن أن تتحقق في ظل انعدام التكافل. فكلّ خطة تنمية تنسى الإنسان وتُهمّش الفقراء وتُقصي المستضعفين، هي خطة فاشلة وإن بُهر الناس بأرقامها. التنمية الحقيقية تبدأ من الإنسان وتنتهي به، تمرّ بحمايته، وتعلي من شأنه، وتمنحه الأدوات ليصنع مصيره بكرامة. وهنا يأتي دور التكافل، ليكون الجسر الذي يعبر عليه الجميع نحو الفرص.
من غير الممكن الحديث عن استدامة تنموية في مجتمع يعيش التفاوت الطبقي المريع، أو في بيئة يتكاثر فيها الفقر بينما تتضخم فيها ثروات أفراد معدودين. ومن هنا، فإن التكافل الاجتماعي ليس مجرد دعم للفقراء، بل هو صمام أمان للمجتمع كله، فحين تُترك الفجوة تتسع بين القادرين والمحرومين، تتولد الأحقاد، وتضعف اللحمة الوطنية، ويتحول المجتمع إلى ساحة صراع لا ميدان تعاون.
وقد علمنا التاريخ أن أعظم الحضارات لم تُبنَ فقط بقوة السلاح أو ذكاء الهندسة، بل بقوة الضمير الجمعي، وبوحدة الصف، وبالقدرة على حماية الضعفاء، والتكاتف في وجه التحديات.
ففي الإسلام مثلاً، تمثل التكافل في أبهى صوره، من الزكاة والصدقات، إلى الوقف والكفالة، إلى تشريعات الإرث والنفقة، إلى حسن الجوار والإيثار، إلى توجيهات نبوية تدعو إلى "أن يحب المرء لأخيه ما يحب لنفسه"، وفي هذه القيم منجم من الذهب الإنساني لو أُعيد استثماره.
ومن دلائل عبقرية التشريع الإسلامي أنه جعل التكافل فريضة وليس نافلة. فلو تُركت النفوس لتختار، لتكاسل البعض عن أداء حقّ الفقير، ولكن حين يكون هناك نصّ يفرض الزكاة، ونظام يضمن توزيعها بعدل، تصبح العدالة جزءًا من بنية الدولة.
ومن هنا نفهم لماذا كانت دولة المدينة في عهد النبي محمد صلى الله عليه وسلم أول نموذج حيّ لمجتمع متكافل تنمويًا، حيث لا يسألك الفقير شيئًا لأنه يجد من يقف بجانبه دون أن يطلب.
أما في العصر الحديث، فإن المجتمعات المتقدمة لم تحقق رفاهها إلا حين بنت أنظمتها على مبدأ التكافل المدني. فالدول الإسكندنافية، على سبيل المثال، تتبنى نموذج "دولة الرفاه"، حيث التعليم مجاني، والرعاية الصحية حقّ، والبطالة تُعالج بالدعم المؤقت، لأن هذه الدول أدركت أن الاستثمار في الإنسان أفيد من تشييد الأبراج الزجاجية.
كما أن منظمات المجتمع المدني، والمنصات الرقمية الجديدة، أضحت أدوات فاعلة لتعزيز التكافل، وتحويله من أفعال موسمية إلى منظومة مؤسسية.
ومن هنا تبرز ضرورة أن تُدرج كل دولة مبدأ التكافل في صلب استراتيجياتها التنموية.
ليس فقط من باب الأخلاق، بل من باب المصلحة الوطنية.
فالمواطن حين يشعر بأن مجتمعه لا يخذله في محنته، وبأن الدولة تقف معه حين تضعف قواه، وبأن يده في يد جاره لا تُترك فارغة، يزداد ولاؤه، ويُقبل على العمل، ويُسهم في عجلة الإنتاج.
أيها الأحبة في الله،
لقد كشفت الأزمات العالمية، من الأوبئة إلى الكوارث الطبيعية، أن الأفراد مهما بلغوا من العلم والجاه، يبقون في حاجة إلى بعضهم البعض.
فحين يُصاب العالم بالشلل، لا تُنقذه التكنولوجيا وحدها، بل التراحم، والتعاون، والمشاركة، والوقوف إلى جانب كبار السن والمرضى والعاطلين عن العمل.
ومن هنا، فإن بناء شبكات تكافلية قوية، سواء على مستوى الحي أو الدولة أو العالم، لم يعد رفاهية، بل ضرورة مصيرية.
ولعل ما نراه اليوم من حروب ونزاعات واحتباسات اقتصادية، يزيد من أهمية العودة إلى قيم التكافل، ليس فقط لإعانة المحتاجين، بل لبناء استقرار طويل الأمد.
فكل عائلة محتاجة تحصل على دعم كريم، وكل يتيم يجد حضن المجتمع، وكل عاجز يشعر بالاحتواء، هو لبنة في بناء تنمية عادلة لا تتآكل من الداخل.
ولكي نصل إلى تلك المرتبة، لا بد من:
- ترسيخ ثقافة التكافل منذ الطفولة، في المدارس والمساجد والبيوت.
- تفعيل دور الإعلام في نشر قصص النجاح التكافلي.
- إنشاء صناديق وطنية للتكافل تكون مُستقلة عن التجاذبات السياسية.
- تبني نماذج مبتكرة مثل الوقف الإنتاجي، ومشاريع التمكين المهني للمحتاجين.
- توظيف الذكاء الاصطناعي والرقمنة في إدارة مبادرات التكافل.
ولنتذكر دائمًا، أن كل درهم يُعطى بصدق، وكل وقت يُبذل بنية العون، وكل فكرة تُكرّس لخدمة الآخرين، هي طاقة نور تُضاف إلى شبكة التنمية.
التكافل لا يعني العطاء فقط، بل يعني أننا مسؤولون عن بعضنا البعض، مسؤولون عن آلام الآخرين، عن أحلامهم، عن كرامتهم، مسؤولون أمام أنفسنا، وأمام الله، وأمام الأجيال القادمة.
وفي ختام هذا الحديث الطويل، أقول:
التكافل هو لغة الحياة، هو نغمة الرحمة، هو أُنس الوحدة، هو ركيزة التنمية، وهو الضامن الوحيد ألا يُهمل أحد، ولا يُنسى أحد، ولا يُقصى أحد.
فلنبنِ مجتمعات لا تسأل الفقير "لماذا أنت فقير؟"، بل تمد له يدًا تقول: "كيف ننهض معًا؟"
مجتمعات تؤمن بأن الإنسان هو الثروة، وأن البناء لا يكتمل إلا حين يحمل الجميع أحمال بعضهم البعض.
شكرًا للإدارة الكريمة على هذه المساحة الرحبة، وشكرًا لكل عضو ساهم في إثراء المحتوى، وشكرًا للأخوة الأفاضل الذين يكتبون لا للجدل، بل للبناء، وللحب، وللخير.
مع خالص التحية والاحترام للجميع.
محبكم في الله // بدر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
#التكافل_الاجتماعي #التنمية_المستدامة #العدالة_الاجتماعية #الزكاة_والوقف #التمكين_الاقتصادي
#قيم_الرحمة #مجتمع_متكافل #إدارة_الأزمات
#الوعي_الاجتماعي #مستقبل_أفضل