السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وتحيات عطرة مباركة لأعضاء هذا الصرح الكريم، روّاد الفكر ورفقاء الحرف في دروب النور والمعرفة، أحييكم جميعًا بتحية طيبة يليق مقامها بعقولكم النبيلة، وأقلامكم الراقية، وأرواحكم التي تضيء دروب الكلمة وتمدُّ ظلالها فوق سطور هذا المنتدى المعطاء.
حديثنا اليوم لا ينتمي إلى ضجيج المدن ولا إلى صخب الأسواق ولا إلى جلبة الدنيا التي لا تهدأ، بل ينتمي إلى عالم آخر، عالم ينسج جماله في صمت السماء، ويكتب حروفه بأجنحة تحلّق فوق الماء، عالم الطيور، وتحديدًا عن طائرٍ وديعٍ اسمه ينساب كالماء في اللسان، ويتردد برقة على شفاه الطبيعة: طائر الطيطوي، هذا الكائن البهيّ الذي يجمع بين الرشاقة والدقة، بين الغريزة والفطرة، بين الترحال والولاء للماء، في قصة وجودية لا تنتهي إلا حيث يبدأ الحنين.
الطيطوي ليس طائرًا عابرًا للسماء وحسب، بل هو نغمةٌ في موسيقى الطبيعة، وشاهد على أسرار البرك الضحلة والسهول الغارقة بماء المطر. ينتمي هذا الطائر إلى فصيلة الدجاجيات المائية أو ما يُعرف باسم "الشقراقيات"، ويتمتع ببنية خفيفة تساعده على التحليق السريع والانسياب فوق المياه بمرونة تخطف الأبصار. ولعلّ أكثر ما يميّزه هو منقاره النحيل الطويل، الذي يُغرس به في الطين بحثًا عن ديدان صغيرة، أو يلتقط به كائنات دقيقة يعيش بها، كأنّه طبيب الأرض يقرأ لغة الطين والماء.
عندما تسير على ضفاف الأودية أو تتأمل مستنقعًا بعد هطول المطر، قد تراه يقفز بخفة أو يسير بخطى مترددة كأنه يتفادى إزعاج كائنٍ نائم، تلك مشيته الهادئة ليست خجلاً وإنما حكمة، فهو يزن خطواته كما يزن الصياد سكون اللحظة. لونه في أغلب أنواعه يتراوح بين الرمادي والبني والبقع السوداء والبيضاء، وهي ألوان لم تأتِ عبثًا، بل جاءت تمويهًا يحميه من مفترسيه، فحين يقف بين الصخور والماء تكاد لا تراه.
الهجرة في حياة الطيطوي ليست خيارًا بل قدَرًا، ينتقل عبر القارات، يتبع مسارات المطر، ويهرب من جفاف الأمكنة، باحثًا عن الرطوبة والدفء، وكأنّه يكتب قصةً من الشوق بين الجنوب والشمال. وهو حين يحلّ بأرضٍ ما، لا يترك خلفه ضجيجًا، بل يترك أثرًا من النقاء، ويعلمنا أن الانتقال لا يعني التخلي، بل الاستمرار في السعي.
ولصوته حكاية، فالطيطوي يطلق نداءه حين يشعر بالخطر أو حين يحلّق في السماء، نداءٌ يشبه نغمةً حزينةً لكنها جميلة، تشبه أنين الريح حين تمرّ على أغصان الغابات في آخر الليل. إنّه طائر يعرف كيف يعبّر عن ذاته بلا تعقيد، يعاتب العالم بصوت رقيق، ويمنح الطبيعة توقيعًا مائيًا يُبقي الحياة نابضة.
ولا عجب أن يُذكر الطيطوي في الأدب الشعبي العربي، فقد كان رمزًا للرحيل، ولصوت البرية، ولحكمة البسيط الذي يرى أكثر مما نراه، ويشعر أكثر مما نظن. ولعلّ فيه عبرة لكل من يهوى التأمل، وكل من يبحث عن المعاني في التفاصيل المهملة، ففي صمته حديث، وفي رقّته بيان.
الطيطوي ليس طائرًا مهددًا بالانقراض، لكنه مهدد بفقدان موائله، فمع تراجع البرك الطبيعية، وتدمير مواطن الماء، وتغير أنماط الزراعة، يجد نفسه مطرودًا من جغرافيته القديمة، وكأنّ العالم الحديث قد نسي أن لهذا الطائر الصغير حقًا في الحياة، تمامًا كما للبشر حق في التطور. لكن الطيطوي لا يشكو، لا يحتج، بل يهاجر، ويواصل، ويعيش.
وفي الختام، أحيّي فيكم هذا الحضور المبارك الذي يعانق الكلمة بشغف، ويمنح لكل موضوع بُعدًا أعمق، فأنتم الروح النابضة في هذا المنتدى الطيب، وأنتم من يصنع من كل نقاش مساحة للوعي والتقدير للطبيعة.
فشكرًا لكم،
وشكرًا للإدارة الحكيمة التي تفتح لنا أبواب الفكر والنقاش الحر،
وشكرًا للأخ الكريم الذي أتاح لنا هذه النافذة على عالم الطيطوي،
وشكرًا للموقع العزيز الذي جمعنا على مائدة المعرفة.