السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وتحية طيبة مباركة وعاطرة إلى جميع الإخوة والأخوات الكرام في هذا الصرح الراقي، منتديات ستار تايمز، منارة العلم والفكر، وميدان النقاش الرفيع والمعرفة السامية. أسأل الله أن يجعل أيامكم نورًا وسرورًا، وأن يرزقكم فهمًا نافعًا وعلمًا راسخًا ويقينًا لا يتزعزع.
إخواني الكرام، روّاد هذا المنتدى الطيب، اسمحوا لي أن أفتح معكم بابًا من أبواب التدبر القرآني، بابًا تتجلى فيه عظمة الوحي الإلهي وعمق الإشارات الربانية التي تنفذ إلى العقل والروح معًا، وتلامس قلوب المتأملين الموقنين، لا سيما حين نقف عند واحدة من أكثر الآيات إثارة للتأمل والمناقشة في سورة آل عمران، حيث يقول تعالى: ﴿إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَىٰ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾ [آل عمران: 55].
يا له من قول عظيم! ويا لها من لحظة مفصلية في سياق التاريخ الإيماني! فحين يخاطب الله نبيه وكلمته عيسى عليه السلام بهذه الكلمات، تتعالى معاني الرحمة والحكمة الإلهية وتتشكل أبعاد العقيدة في وجدان كل مؤمن، وتتزاحم التأويلات بين العلماء والمفسرين، ويعلو النقاش بين المدارس الفقهية والعقائدية، ويبقى النص الكريم مصدرًا للهدى، ومثارًا للتدبر لا ينفد نوره على مر العصور.
كلمة "متوفيك" هي محور هذا الحوار، وهي كلمة فريدة من نوعها، تحوي في طياتها معاني جمّة، وتفتح باب التأويل بين معنى الوفاة التي تعني قبض الروح من الجسد، أو النوم الذي هو وفاة صغرى، أو الكناية عن رفعه من الدنيا، أو حتى كونه سيُتوفى بعد إنزاله في آخر الزمان كما ذهب إلى ذلك كثير من علماء السلف والخلف. إن تعدد أوجه المعنى هنا ليس ضعفًا بل قوة، فهو دليل على عمق البيان القرآني وثراء المفردة العربية التي لا تختصر في مفهومٍ واحد، بل تنفتح على فضاءات من المعاني.
وقد وقف أهل التفسير عند هذا اللفظ طويلاً، فأشار ابن كثير في تفسيره إلى أن الوفاة هنا ليست بمعناها المتعارف عليه عند عامة الناس من الموت والانقطاع، بل هي توفي كرامة، حيث قبضه الله ورفعه إليه دون أن يُقتل أو يُصلب كما زعمت اليهود والنصارى. وقال الطاهر بن عاشور رحمه الله: إن الوفاة هنا تعني استيفاء الله لعيسى، إما بروحه أو بجسده وروحه معًا، وهي وفاة خاصة تختلف عن الموت الشائع الذي يشمل مفارقة الجسد للروح مع بقاء الجسد في الأرض.
أيها الأحبة، إن الخوض في هذه الآية لا ينبغي أن يكون خوضًا لغويًا بحتًا، بل يجب أن يُنظر إليها بمنظار العقيدة، بمنظار التنزيه، بمنظار الإيمان بأن الله لا يترك أنبياءه للمهانة، بل يصطفّيهم ويرفعهم، وله في كل أمر حكمة لا نعلمها، ولكنه سبحانه أراد أن يكون لعيسى عليه السلام شأن خاص في قصته، وأن تُصبح حياته ورفعه ونزوله آيات كونية تدحض الباطل وتثبّت الحق.
فمن قال إن عيسى مات، فإنه خالف ظاهر الآية. ومن قال إنه رُفع حيًا بجسده وروحه، فقد وافق أغلب أقوال السلف، وقد أيّده السياق في آيات أخرى، منها قوله تعالى: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ﴾ [النساء: 157]، وقوله سبحانه: ﴿بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ﴾ [النساء: 158]، وهذه كلها آيات متضافرة تثبت أن عيسى لم يُمت بل رُفع رفعًا خاصًا كريمًا إلى الله.
وما أحوجنا في هذا الزمن إلى إعادة التذكير بهذه الحقائق الإيمانية، وإحياء هذا التدبر العميق في كتاب الله، لا نقف عند ظواهر الألفاظ بل نحفر في المعاني حتى نصل إلى الجواهر. إن هذا المقطع من سورة آل عمران يربط بين العقيدة والنبوة والغيب والتاريخ، فهو ليس مجرد إخبار عن حدث مضى، بل هو إثبات لعقيدة راسخة، أن الله عزيز لا يترك أولياءه للظلم، وأن الباطل مهما لبّس وتآمر، فإن له نهاية، وإن للحق غلبة ما بعدها غلبة.
وليس غريبًا أن تكون هذه الآية جزءًا من سورة آل عمران، هذه السورة التي حملت همّ العقيدة، والتي خاطبت النصارى واليهود، وواجهت شبهاتهم، وأقامت الحجة عليهم بآيات بينات لا يملك أمامها المنصف إلا أن يخضع ويوقن بأن الله هو الحق المبين.
وأختم، أيها الإخوة الكرام، بأن هذه الآية العظيمة تحتاج إلى أن تُتلى بتدبر، وتُفهم بتروٍ، وتُربّى عليها الأجيال، ليعلموا أن القرآن ليس كتابًا تاريخيًا، بل هو كتاب حياة، كتاب عقيدة، كتاب عز وفهم وكرامة. وأن نبي الله عيسى لم يُصلب كما افترى المفترون، بل رفعه الله إليه، تكريمًا له، وتمهيدًا لعودته في آخر الزمان، حيث سيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويقيم الحق ويكمل المسيرة التي بدأها.
لكم مني أعطر التحايا وأصدق الدعاء، ولكم مني جزيل الشكر على قراءة هذا الطرح المتواضع، وأسأل الله أن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، وأن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح والتدبر الحقيقي في كتابه العزيز، والشكر موصول لإدارة المنتدى الكريمة، ولأخي العزيز الذي أتاح لنا فرصة النقاش والتأمل في معاني كتاب الله.
#تدبر_القرآن #سورة_آل_عمران #رفع_عيسى_عليه_السلام #الوحي_الإلهي
مودتي // إحساس غالي