السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وتحية طيبة وعاطرة مفعمة بالودّ والاحترام لجميع الأعضاء الكرام في هذا الموقع المبارك، الذي اجتمعنا فيه على الكلمة الهادفة، والفكرة النبيلة، والسعي الجاد نحو ارتقاء الفكر وعلوّ الإدراك، وتلاقح الرؤى النابعة من أعماق التجربة، والممتزجة بأنين القلوب وبصيرة العقول.
أما بعد، فاسمحوا لي أيها الإخوة الأحبّة أن أطرح بين أيديكم حديثًا متواضعًا، يخرج من عمق التجربة ويقودنا إلى ناصية التأمل والتساؤل، حول سؤال قلّما نفلت منه في هذه الحياة الصاخبة: كيف نجتاز أزماتنا بسلام؟ سؤالٌ تتقاطع عنده خيوط النفس البشرية، وتُستنهض فيه معاني الصبر والحكمة والإيمان والمرونة، وتُختبر فيه القدرة على السير في دروب الحياة رغم العواصف، والخروج من عنق الزجاجة بروح لم تُكسر، وقلب لم يُطفأ، وعقل لم يُضلّ عن جادة الصواب.
إن الحديث عن الأزمات ليس ترفًا فكريًا، ولا تنظيرًا بعيدًا عن الواقع، بل هو حديث الساعة واليوم والغد، حديث الإنسان الذي يمرّ بفقد، ويُفاجأ بخذلان، ويُحاصر بضيق ذات اليد، وتضجّ في صدره أسئلةٌ لا تنتهي: لماذا أنا؟ لماذا الآن؟ كيف أحتمل؟ ومن يمسك بيدي حين تضيع الطرق وتظلم الدروب؟ كيف أصل إلى السلام وسط كل هذا الضجيج؟ وما هو السلام أصلاً؟ هل هو صمت الألم أم تجاوزه؟ هل هو رضا بالواقع أم ثورة عليه بحكمة؟
الأزمات ــ يا سادة ــ لا تأتي لتنذر بفناء الإنسان، وإنما تأتي لتختبر جذور ثباته، عمق إيمانه، ومقدار نضجه الروحي والفكري، وتكشف عن المعادن الحقيقية، وتعرّي الأقنعة، وتُعيد تشكيل الذات. من لم يعرف نفسه في الأوقات الحالكة، فهو لم يعرفها حقًا. ومن لم يجالس وحدته في ساعات الخوف والقلق، فلن يذوق طمأنينة النجاة. إذ إن عبور الأزمات لا يكون فقط بالخروج منها، بل بكيفية خروجنا، وما الذي اكتسبناه أو فقدناه، وما الصورة التي رسمناها لأنفسنا ونحن نغادرها.
نعم، الأزمات تُربك، تُرهق، وتدفع البعض نحو التهور، أو نحو الاستسلام، ولكن هناك مَن يملكون بوصلة روحية تضيء لهم الطريق وسط الظلام. هؤلاء يَعتبرون الأزمة فرصة لإعادة ترتيب الذات، لإعادة النظر في الأولويات، لتنظيف النفس من شوائب الغرور والاعتماد الزائف على الناس، والعودة إلى الله بصدق، لا خوفًا من البلاء، بل حبًا في النور بعد العتمة. إنهم لا يخرجون من الأزمة كما دخلوا، بل يخرجون بأنفس جديدة، بنبض مختلف، برؤية أوسع، وبصمت يسبق الكلام.
أحيانًا لا نحتاج لمن يحلّ الأزمة، بل لمن يجلس بجانبنا في صمت، يشاركنا الثقل، لا الكلمات. لأن السلام لا يُمنح، بل يُبنى لبنة لبنة من الداخل. من صبر عميق، من يقين بأن كل شدةٍ إلى زوال، من إيمان بأن وراء كل ليلٍ فجر، ومن فهمٍ أن الألم ليس عدوًّا بل معلمًا، وأن كلّ نزيفٍ داخليّ هو تمهيدٌ لنضجٍ لا يأتي سواه.
ولعلّ من أهم أسرار اجتياز الأزمات بسلام هو أن نُدرك بأننا بشر، نضعف، نبكي، نتألم، ولكن لا ننهار. أن نمنح أنفسنا حق الحزن دون خجل، وحق الاستراحة دون جلد، وحق الصراخ في الخفاء دون خيانة للتماسك الظاهري. أن نفهم أن "السلام" لا يعني أن الحياة هادئة، بل أن داخلنا غير مضطرب رغم الضجيج. السلام ليس نفيًا للمشاعر، بل هو القدرة على احتوائها دون أن تبتلعنا.
لقد رأيتُ في لحظات الأزمات كيف يسطع نورٌ خفيّ من عيون من ظنناهم منطفئين. كيف تولد عزائم من رحم الفقد، وكيف تنبت شجيرات الأمل في صحراء اليأس، كيف نغدو أكثر قربًا من الله حين تُغلق الأبواب كلها، كيف نتعلم الحديث مع أنفسنا حين يسكت الجميع، وكيف نكتشف ما الذي يهمّ فعلًا، وما الذي كان مجرّد وهمٍ زائل.
وكم من أزمة كانت بركة مستترة، كم من ضيق فتح بابًا لما هو أوسع، وكم من عثرة علمتنا كيف نمشي مستقيمين. فالأزمات لا تسرقنا، بل تعيدنا إلينا. إنها توقظنا من سبات التكرار، وتدفعنا لنخطّ طريقًا جديدًا، لتنهض فينا روح الطفولة التي لا تخجل من السقوط، ولا تيأس من المحاولة.
إن الإنسان الذي يتعلّم من أزمته لا يعود كما كان، وإن عاد، فإنه يعود أكثر رحمة، أكثر حكمة، وأكثر إيمانًا. يدرك أن الغضب لا يشفي، وأن الندم لا يغيّر الماضي، وأن أفضل رد على الظلم هو النهوض من تحت أنقاضه، والمضيّ قدمًا دون التفات. يدرك أن الحياة قصيرة، والفرص نادرة، وأن القلب الذي ما زال ينبض رغم كلّ ما مرّ به، يستحق أن يُصان، لا أن يُثقل باللوم.
ومن هنا، فإننا حين نُحسن اجتياز أزماتنا، لا نكون قد عبرنا مجرّد مرحلة، بل نكون قد عبرنا إلى نسخة أرقى من أنفسنا. فلتكن أزماتنا جسورًا لا قبورًا، دروسًا لا كوابيس، بدايات لا نهايات. ولننظر إليها كما ينظر الرسام إلى صفحة بيضاء، لا ليتحسّر على بياضها، بل ليرسم عليها لوحة جديدة بلون التجربة، لا بلون الخوف.
أختم حديثي وأقول: الشكر كل الشكر لإدارة هذا الموقع الرائع، التي منحتنا منبرًا نفصح فيه عن خواطرنا وتجاربنا ونكسر فيه حواجز الصمت. كما أوجه شكري للأخ الذي فتح لنا هذا الباب للحديث عن أمر يخصّ كلّ واحد منا دون استثناء، فبارك الله في جهوده ومساعيه، وزاده الله بصيرة وحكمة.
مودتي // أحساس غالي
#الأزمات_تصنعنا #قوة_الروح #السلام_الداخلي #حديث_من_القلب