كيف يغرس الإيمان ثقافة التسامح والرحمة بين البشر؟ – قراءة في نور الآيات القرآنية
بقلم: ..
في خضم صراعات البشر اليومية، وتزاحم المصالح، وتعدد المواقف التي تُغذي الخصومة وتُشعل الكراهية، يبقى الإيمان بالله تعالى نبعًا صافياً يغرس في القلب شجرة التسامح، ويجعل من الرحمة مبدأً أصيلاً في التعامل مع الآخرين، لا مجرد ردة فعل. وهذا المعنى الجوهري لم تغفله آيات القرآن الكريم، بل سلّطت عليه ضوءًا هادئًا يلامس الوجدان، ويهدي السلوك، ويعلّم البشرية أن التراحم ليس ضعفًا، بل قمة القوة الإنسانية في ضوء العقيدة.
أولًا: الرحمة شريعة ربانية تبدأ من الإيمان
قال الله تعالى:
﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [الأعراف: 156]
هذه الآية تؤسس لفهم عميق بأن الرحمة ليست خُلقًا بشريًا طارئًا، بل هي منهج إلهي شامل. ومن يدرك سعة رحمة الله، يُدرِك أن على المؤمن أن يتأسّى بخالقه في تعامله مع الناس، برحمة وسعة صدر.
وقال تعالى:
﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107]
فإذا كانت الرسالة كلها قائمة على الرحمة، فكيف لا يكون المؤمن رسولَ رحمةٍ في بيئته، ومرآةً تعكس قيم الإسلام في أرقى صورها؟
ثانيًا: التسامح منهج الأنبياء والعباد الصالحين
قال تعالى:
﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ [فصّلت: 34]
هذه الآية تصنع ثورة داخل النفس، وتحوّل العداوة إلى مودة، لا بالسلاح، بل بالأخلاق والإحسان والتسامح. إنها دعوة للمؤمن أن يطفئ نيران الخصام بنور التسامح.
ثالثًا: الإيمان يطهّر القلب من الغلّ والحقد
قال تعالى في وصف أهل الجنة:
﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ﴾ [الحجر: 47]
المؤمن الحقيقي يسعى في الدنيا لأن يُزكّي قلبه، ويتخلص من الغل قبل أن يُنزع منه في الآخرة، ويؤمن أن نقاء القلب من الحقد جزء من السعي إلى الجنة.
رابعًا: العفو والتسامح من صفات المتقين
قال تعالى:
﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [آل عمران: 134]
العفو ليس ضعفًا، بل قمة من قمم التقوى. وهو فعل محبوب عند الله. والمؤمن الذي يسعى لنيل محبة الله يعلم أن أحد أبوابها التسامح والعفو عند المقدرة.
خامسًا: الرحمة بالضعفاء من دلائل الإيمان الصادق
قال تعالى:
﴿فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ﴾ [الضحى: 9-10]
من الإيمان أن تكون رؤوفًا بمن لا حول لهم ولا قوة. الإيمان لا يُقاس فقط بالصلاة والصيام، بل بتعاملك مع من لا يُرجى منهم نفع دنيوي، واليتيم والسائل نموذجين في هذا الباب.
سادسًا: حتى مع الأعداء.. هناك رحمة
قال تعالى:
﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا﴾ [الأنفال: 61]
القرآن لا يشرّع الدماء بل يشرّع السلام. فإن أبدى العدو رغبة في السلم، فلا مكان للعدوان، لأن الإيمان يعلمك أن غايتك ليست الانتصار بل الإصلاح.
سابعًا: من يؤمن بالله لا يُعامِل الناس بأحقاد النفس
قال تعالى:
﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ﴾ [فصلت: 34]
التمييز بين الردود ليس شأنًا نفسيًا، بل قرار إيماني. فالمؤمن لا يساوي بين الإساءات والإحسان، بل يسمو بنفسه ليكون رمزًا للسلام الداخلي والخارجي.
ثامنًا: جزاء التسامح في الدنيا والآخرة
قال تعالى:
﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾ [الشورى: 40]
هذه الآية وحدها تكفي لتُسكن قلب المؤمن الطمأنينة. فجزاء العفو عند الله، وهذا وحده حافز كافٍ لأن يختار التسامح في كل موضع.
خاتمة: الإيمان ليس كلمات، بل سلوك
ثقافة التسامح والرحمة ليست شعارات مثالية، بل هي ثمرة من ثمار الإيمان الصادق. وكلما ازداد إيمان العبد، ازداد صفاء قلبه، ورقّت روحه، واتسعت رحمته، وامتلأ سلوكه بنور التسامح. والقرآن –ككتاب حياة– أرشدنا إلى هذه القيم، لا لنحفظها، بل لنجسدها في كل موقف نعيشه.
المصادر:
- القرآن الكريم، مصحف المدينة النبوية.
- الطبري، تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن.
- ابن كثير، تفسير القرآن العظيم.
- القرطبي، الجامع لأحكام القرآن.
اللهم ارزقنا إيمانًا يُزكّي نفوسنا، ويجعلنا من أهل الرحمة والتسامح، في القول والفعل والنية...
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
