مقال ديني أكاديمي: أهمية الوحدة في القرآن الكريم والسنة النبوية – قراءة تفسيرية وتأصيل شرعي
الحمد لله الذي أمر بالاجتماع ونهى عن التفرق، وجعل الوحدة من أعظم مقاصد الدين، والصلاة والسلام على سيد الموحّدين، محمدٍ بن عبد الله، الذي وحّد صفوف الأمة تحت راية التوحيد والإيمان.
تُعد الوحدة الإسلامية مبدأً أصيلًا ومحورًا جوهريًا في الخطاب القرآني والنبوي، لما لها من أثر مباشر في تثبيت أركان الأمة، وصيانة كيانها من الانقسام والتنازع، وتحقيق العزة والتمكين. وقد تناولت آيات القرآن الكريم وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم موضوع الوحدة بأساليب متعددة، تجمع بين الأمر والبيان، والتحذير والتنبيه، بما يدل على عمق هذا المبدأ في المنظومة الإسلامية.
أولاً: الوحدة في القرآن الكريم – توجيه رباني وتأسيس عقائدي
قال تعالى:
{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}
(آل عمران: 103)
يُعدّ هذا النص القرآني من أعظم المواضع التي تؤكد على وجوب التمسك بوحدة الأمة، والاعتصام بجماعة المسلمين، وقد فسر العلماء "حبل الله" بأنه القرآن والإسلام والجماعة كما قال ابن عباس رضي الله عنهما (تفسير الطبري، ج7، ص: 14)، وهو تعبير جامع يدل على وحدة المنهج والمصدر والوجهة.
ويقول الله تعالى أيضًا:
{إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}
(الأنبياء: 92)
وفي هذه الآية الكريمة تقرير واضح أن الأمة في أصلها العقائدي والديني واحدة، وأن وحدتها تنبع من وحدانية ربها، ووحدة مقصدها في العبادة، ولا يجوز أن تُجزّأ أو تُفرّق تحت أي اعتبار دنيوي أو عصبي.
كما قال عز وجل في التحذير من الفرقة:
{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ}
(آل عمران: 105)
وهذا تحذير شديد من الوقوع في مسالك التفرق بعد ظهور الحق، لأن ذلك دليل على ضعف القلوب، وفساد النيات، واتباع الأهواء.
ثانيًا: السنة النبوية – دعائم الوحدة وأسس الاجتماع
لقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديثه المطهرة على أهمية وحدة الصف، فقال:
"يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار"
(رواه الترمذي، حديث صحيح)
وفي هذا الحديث توجيه نبوي عميق، بأن الجماعة هي محل رضا الله ونصرته، وأن الخروج عنها هو خروج عن سبيل النجاة، لأن الفرقة مدخل للفتنة، والوحدة سبيل للهداية والثبات.
كما قال صلى الله عليه وسلم:
"المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضًا"
(رواه البخاري ومسلم)
وفي هذا التشبيه النبوي، تأكيد أن ترابط المسلمين فيما بينهم هو بمثابة بنيان متكامل، لا يُتصور قيامه إلا بتماسك وحداته، فإذا غاب الترابط والتكامل، انهار البنيان، وتخلخل صف الأمة.
وقال صلى الله عليه وسلم أيضًا:
"لا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانًا"
(رواه مسلم)
وفي هذا الحديث تتجلى أركان الوحدة العملية: ترك الحسد، ونبذ البغضاء، ومقاطعة الشحناء، وتحقيق الأخوّة الصادقة التي تبني مجتمعًا موحدًا لا يعرف الشتات.
ثالثًا: الوحدة أساس التمكين والنصر
لا تقوم للأمة قائمة ما لم تجتمع كلمتها، وتتحد صفوفها، وتتوحد رؤاها، فالفرقة كانت دومًا سببًا في الهزيمة والتراجع، والوحدة كانت أصل النصر والتمكين. قال تعالى:
{وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}
(الأنفال: 46)
وقد علّق الإمام القرطبي على هذه الآية قائلًا: "فيها دلالة على أن النزاع يُذهب القوة ويجلب الهزيمة، والاتحاد يُورث الغلبة والنجاة." (الجامع لأحكام القرآن، ج7، ص: 398)
وهذا ما أثبته الواقع في السيرة النبوية، حيث كانت غزوة بدر نموذجًا للوحدة والطاعة فحقق المسلمون النصر، بينما كانت غزوة أحد درسًا في خطورة مخالفة الصف وتفرق الكلمة.
رابعًا: الوحدة مقصد شرعي واجتماعي وأخلاقي
إن التوجيه بالوحدة ليس أمرًا تعبديًا فحسب، بل هو مقصد شرعي يُبنى عليه صلاح المجتمعات، وتماسك الأسر، وقوة الدولة، وحسن العلاقات بين الشعوب. وكلما تحققت الوحدة على أساس من العقيدة والمنهج، كلما زاد التعاون، وتحققت الرحمة، وساد الأمن.
ولهذا فإن الدعوة إلى الوحدة بين المسلمين هي دعوة إلى حياة مستقرة كريمة، وإلى نهضة حضارية شاملة، تبدأ من وحدة القلوب، وتتوسع إلى وحدة الأهداف والمواقف والرؤى.
لقد جاءت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية لتجعل من الوحدة الإسلامية ركيزة لا يمكن التفريط بها، ومبدأ لا يصح الإيمان دون التمسك به، وهي ليست شعارًا مؤقتًا، بل واجب ديني متجدد، لا يتحقق إلا بالرجوع إلى الوحي، ونبذ العصبيات، والتمسك بجماعة المسلمين.
قال الإمام الشافعي رحمه الله: "إذا رأيت القوم يتنازعون، فاعلم أنهم على غير هدى، وإذا رأيتهم مجتمعين، فاعلم أنهم على الحق."
فلنكن دعاة وحدة، بقلوب متصالحة، ونفوس متجردة من الهوى، وعقول مستنيرة بالهدي النبوي.
#الوحدة_الإسلامية #القرآن_والجماعة #الحديث_والاجتماع