السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
تحية طيبة مملوءة بالمحبة والاحترام لكل الأعضاء الكرام في هذا الصرح المبارك، الذين يُضيئون جنباته بأفكارهم النيرة، وأقلامهم الصادقة، وأرواحهم الراقية. لكم من القلب خالص الدعاء بأن يجعل الله أقلامكم شاهدًا لكم، ونياتكم موصولة بصدق، وأعمالكم طريقًا للنور والهدى، أما بعد...

ففي رحاب القرآن الكريم، نرتشف من معينه العذب ما يُهذّب النفوس، ويُقوّم العقول، ويُهدي القلوب إلى سواء السبيل. ومن أعظم ما نتأمله، ونغوص في أعماقه، ما جاء في سورة البقرة، في قول الله تعالى: "الطلاق مرتان".
آية عظيمة لا تقف عند حدود الأحكام الشرعية، بل تمتد إلى فلسفة الحياة نفسها، وإلى عمق العلاقات الإنسانية، لتُرسي قاعدة راسخة في ضبط الانفعالات، وصيانة الكرامة، وحماية الكيان الأسري من العبث، والانهيار العاطفي أو المزاجي.

"الطلاق مرتان"... جملة قصيرة، ولكنها تنطوي على رسالة بليغة، وميزان دقيق بين التفريط والإفراط، بين الرحمة والحزم، بين القرار والاندفاع. فهي ليست مجرد تشريع، بل حكمة ربانية تسكب على القلوب نهرًا من التأمل.
لم يقل الله تعالى: "الطلاق مرة"، فيغلق الباب من أول خلاف، ولم يقل: "الطلاق بلا حد"، فيتحول الزواج إلى عبث واستهتار، بل قال: "مرتان"، أي أن هناك فرصًا للتراجع، للتفكر، للحوار، لإعادة الحسابات. وكأنّ الله سبحانه يمنح الإنسان فسحة من الزمن ليُراجع نفسه، ويراجع قلبه، ويراجع ضميره.

إنّ في تكرار الطلاق مرتين فقط درسٌ بليغ لكل زوج وزوجة، مفاده أن العلاقة الزوجية ليست ساحة صراع، بل مساحة بناء، وأن الفراق ليس قرارًا يُتخذ في لحظة غضب، بل نتيجة حتمية إن فشلت كل وسائل الإصلاح.
كما أن هذه الآية تجعلنا نُدرك أن التشريع الإسلامي، رغم حزمه، ينبع من عيون الرحمة، ويمزج بين العدل والعاطفة، فالله لم يُرد أن تكون الحياة الزوجية سجنًا، ولكنه أيضًا لم يُرد لها أن تكون ملعبًا للرغبات الطائشة.

ويا لروعة التعبير القرآني، كيف جاءت كلمة "مرتان"، لا لتهديد ولا لتقييد، بل لتقويم، ولإعلاء قيمة النية، والصبر، والتعقل. فالحياة الزوجية تتطلب من الطرفين نضجًا، وتحملاً، وحسن تدبير، والطلاق لا يجب أن يكون أول الحلول، بل آخرها.
والأجمل أن الآية جاءت في سياقٍ يُلزم الرجل بردّ زوجته بمعروف، أو تسريحها بإحسان. فحتى في أصعب لحظات الوداع، يُفرض علينا الخلق النبيل، ولا يُبرر الغضب القطيعة السيئة، لأن الإسلام يريد لنا إنسانيتنا في أرقى تجلياتها، حتى ونحن ننهي العلاقة التي كانت بالأمس ميثاقًا غليظًا.

ولعل أجمل ما في هذه الآية أنها تُعيد ترتيب أولوياتنا... تُخبرنا بأن التهور في الانفصال دليل على ضعف، لا قوة، وأن من يتقن التريث، هو من يملك نفسه في ساعة الغضب.
وهكذا نتعلّم من هذا النص الرباني أن القرار في الحياة لا يجب أن يكون لحظيًّا، ولا أن تحكمه المشاعر المجردة، بل أن يستند إلى الحكمة، والبصيرة، والتأمل العميق في العواقب.

وفي الختام، لا يسعني إلا أن أتقدّم بجزيل الشكر والتقدير لإدارة هذا الموقع المبارك، الذي منحنا هذه المساحة الطيبة للتعبير والنقاش، وللأخ الكريم الذي فتح لنا هذا الباب لنغوص في أعماق القرآن الكريم، ونُحلق في سماء البلاغة والمعاني، فلكم منا دعوات خالصة بالتوفيق والسداد.

#تدبر_القرآن   #سورة_البقرة   #الحكمة_في_الطلاق   #الزواج_ميثاق_غليظ