السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
تحية طيبة مباركة أزفها إلى إخوتي وأخواتي الكرام في هذا الصرح المبارك، وإلى كل من سطّر حرفاً أو مرّ مرور الكرام، أسأل الله أن يكتب لكم الخير في القول والعمل، ويجعل أقوالنا شاهدة لنا لا علينا يوم نلقاه. كما لا يفوتني أن أرفع أسمى آيات الشكر والتقدير إلى إدارة الموقع المباركة، وللأخ الفاضل الذي أتاح لنا هذا الفضاء النقي للحوار والتأمل، جزاكم الله عنا خير الجزاء وأجزل لكم العطاء.

نقف اليوم أمام آية عظيمة من كتاب الله العزيز، تضيء لنا مفترقاً من مفترقات الحياة الزوجية، ذلك المفترق الذي يمس كيان الأسرة ويهز أعمدة الاستقرار إن لم يُدار بحكمة ورفق وتأنٍ، إنها قول الله تعالى في سورة البقرة: "الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان". هذه الآية ليست مجرد تشريع فقهيّ ينظّم أحكام الطلاق، بل هي مدرسة قائمة بذاتها، تُدرّس فنون الحكمة، وتُرشد إلى سبل العدل، وتغرس في النفس معاني الرفق والرحمة حتى في لحظات الوداع.

تأملوا في لفظ "مرتان"... ما أعظم هذا التحديد الإلهي! ليس عبثاً ولا عدداً عشوائياً، بل هو حدّ فاصل بين التروي والتهور، بين محاولة الإصلاح والانجراف إلى الانفصال. فالطلاق الذي قد يراه البعض مخرجاً سريعاً لأزمات مؤقتة، وضع له الله تعالى سقفاً وعدداً، ليُفهم من ذلك أن الطلاق ليس أول الحلول، بل آخرها، وأنه ينبغي أن يُسبق بمحاولات صادقة للإصلاح والترميم.

ثم انظروا كيف أعقب الحق سبحانه هذا التحديد بخيارين فقط، لا ثالث لهما: "فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان". إنهما خياران يسموان بالخلق الإنساني في أحلك لحظاته، فإن قرر الزوجان البقاء، فليكن ذلك بمعروف، لا بمهانة أو منٍّ أو إذلال. وإن قررا الفراق، فليكن بإحسان، لا بتجريح أو إهانة أو كيد. كم من علاقات انقضت ولم تبقَ منها إلا آثار الجراح بسبب الطلاق الذي نُفّذ بلا إحسان، وكم من أسرة تفككت، لا بسبب الطلاق نفسه، بل بسبب غياب المعنى القرآني في "التسريح بإحسان".

هذه الآية العظيمة تضع أمامنا رؤية إلهية تُعلّمنا أن العلاقات البشرية، حتى عندما تتصدع، يجب أن تُدار بالرحمة، وأن تُختتم بالخلق الحسن. فليس العبرة أن تُنهي العلاقة، بل كيف تنهيها. وليس الشأن أن تُمسك شريكك، بل أن تُمسكه بمعروف. ولعل في ذلك درساً أوسع يشمل كل علاقاتنا الإنسانية: أن يكون التعامل في بداياتها بنُبل، وفي نهاياتها بشرف.

أحبتي، حين نتمعن في آيات القرآن لا نغترف منها فقط أحكاماً فقهية، بل نرتشف منها روائع التربية الربانية، ومناهج الإصلاح الاجتماعي، وكنوز الأخلاق السامية. وسورة البقرة بما تحمله من تشريعات ونفحات ربانية، تفتح لنا الباب واسعاً للفهم، لا للحفظ فحسب، وللتدبر، لا للتكرار فقط.

أسأل الله أن يرزقنا فهماً عميقاً لكتابه، وعملاً صالحاً بهديه، وأن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، والحمد لله أولاً وآخراً، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

#الطلاق_مرتان #تسريح_بإحسان #فقه_القرآن #سورة_البقرة