في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، وفي زمن كانت فيه الشاشة الصغيرة نافذتنا الوحيدة على العالم، عرّفَتنا القناة المغربية على بطل من نوع خاص، بطل لا يشبه أبطال القصص الخيالية ولا يحمل سيفا مسحورا، بل كان فارسا في هيئة آلة جبارة يقود مركبته الفضائية من منفى بعيد، قلبه ممزق بين حبّ للأرض التي تبنّته وحنين لوطن فقده إلى الأبد. ذلك البطل هو دوق فليد قائد الرجل الآلي غريندايزر.
دايسكي (دوق فليد)
لم يكن غريندايزر مجرد مسلسل رسوم متحركة عادي. كان رسالة مغلفة في طابع خيالي تتحدث عن الاحتلال والمقاومة والهوية والوفاء. كل حلقة كانت تسافر بنا بعيدا في الفضاء، لكنها في الحقيقة، كانت تغوص بنا أعمق داخل ذواتنا.
كنتُ حينها في بداية عقدي الثالث ، لكني كنتُ أحرص على متابعته مع إخوتي الصغار وكنتُ بحكم سني أعي جيدا أن دوق فليد لم يكن يحارب فقط الوحوش الفضائية، بل كان يحارب الحزن والغربة والغدر والخذلان. لقد كان نموذجا للبطل النبيل الذي رغم معاناته الشخصية لا يتوانى عن الدفاع عن الأبرياء.
أتذكّر تماما لحظة جلوسنا أمام التلفاز ننتظر بتلهف شارة البداية بصوت الموسيقار اللبناني سامي كلارك الذي أبدع في غنائها بنغمة فيها شيء من الحزن وكثير من الأمل.
كنتُ أتابع الحلقات بشغف لا يقل عن شغف الأطفال. كنتُ أتابعها بكل جوارحي وكأنني أستمع إلى رسالة مُشفّرة لا يفكّ رموزها إلا من عاشوا شيئا من الحنين أو عرفوا طعم الغربة والخذلان.
والحقيقة أن تلك السلسلة لم تكن مجرد رسوم متحركة، بل كانت عملا يحمل في طيّاته قضايا وأفكارا تتجاوز عمر المشاهد ومستواه التعليمي. كنتُ أرى فيه قصة منفى نبيل ومقاومة عنيدة وصمت ثقيل يملأ ملامح البطل دوق فليد، ذاك الذي فقد وطنه، لكنه لم يفقد بوصلة القيم ولا نبض الكرامة.
واليوم، بعد مرور أكثر من أربعين سنة، لا زلتُ أعتبر غريندايزر أحد أكثر الأعمال التي جمعت بين الفن والفكرة. ولا عجب أن صموده في الذاكرة وعودته المتكررة إلى وجدان الناس، دليل على أنه لم يكن يوما مجرد مسلسل كرتوني بل كان مرآة صافية عكسَتْ ما في دواخلنا من طموح وألم وشرف.
كم تـشتاق أرواحنا في زمن التسطيح والتكرار إلى أعمال مثل غريندايزر، أعمال تحترم عقل الطفل وتراعي مشاعر الإنسان.
إن العودة إلى غريندايزر اليوم ليست مجرد نوستالجيا عابرة، بل هي استحضار لقيم نحتاجها أكثر من أي وقت مضى، قيم الوفاء والشجاعة والإيثار والإيمان بالحق حتى في أحلك اللحظات.
وها أنا أشارك في مسابقة أيام الزمن الجميل من تنظيم المبدع المتألق عبد الله، أشارك لا لأستعرض ذكرى قديمة فحسب، بل لأقول إن الأعمال الصادقة لا تموت، وإن الطفولة ليست عمرا بيولوجيا، بل هي نقاء نظرتنا للأشياء، وصدق اندهاشنا وحنيننا إلى معان لم تغب عن قلوبنا في يوم من الأيام.
الله عليك وعلى لغتك الانسانية وأنت تشرح لنا عن عمل (لم أتابعه ولا أعرفه) ولكن وصلني من حديثك قيمة هذا الانمي والمشاعر الجميلة التي يُطلقها.
سهلت علي بصدارتك كأول مشارك، نحظى بشرف مشاركته، عناء الشرح للأعضاء الذين بودهم المشاركة. كتبت مقالك الرائع كما جاء في نص فكرة مسابقة أيام الزمن الجميل.
كلماتك أسعدتني وأبهجت قلبي، بل وشرفتني أكثر مما تـتصور.
سعيد جدا أن موضوعي وصل إلى وجدانك رغم أنك لم تـتابع المسلسل بنفسك، وهذا وحده دليل على أنك تنظر إلى الكتابات بعيون القلب، وتمنحها مساحتها لتتكلم وتُحسّ.
وسعيد أكثر أنني كنتُ أول من يضع لبنة المشاركة في هذه المسابقة الجميلة التي تحمل في فكرتها عبق الطيبين وصدق الأيام الخالية.
شكرا لدفئك ولذوقك ولتفانيك في تقديم هذا الفضاء النقاشي كمنبر يجمع بين الذاكرة والإبداع.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بارك الله فيك اخي ابا فارس
جميلة هي طريقة تناولك لهذه الرسوم الخالدة
فعلا كان لها وقع كبير على انفسنا ونحن نجلس امام التلفاز
بكل شوق للجديد رغم انني لم اكن اعي جيدا المغزى
لكن فصاحة اللغة العربية وتلك الافكار البناءة التي تزرع فينا الشجاعة
والقيم كان لها وقع على النفس
جميلة تلك الايام ببساطتها
وكم تخيلنا ان تلك المخلوقات حقا ستغزو الارض
مثل احد الرسوم الذي كان يحمل عنوان xor
لاول مرة نعرف الديناصور في هذه الرسوم ههه
كنا نخاف منه
ما اجمل ايام الطفولة
تحياتي
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته أختي الفاضلة أمنية،
بارك الله فيكِ على هذا التعليق اللطيف الذي نثر عبير الذكريات ودفءَ الطفولة. أسعدَتني كلماتكِ كثيرا، فقد شعرتُ من بين سطورها بذلك الحنين الصادق لزمن كانت فيه الأشياء بسيطة لكن أثرها عميق في نفوسنا.
صدقتِ، لم نكن دائما نعي كل المعاني، لكننا كنـا نُصغي بحواسنا وقلوبنا، ونتشرّب القيم النبيلة من دون أن نشعر : الشجاعة، التضحية، الوفاء، وحتى حبّ اللغة العربية الجميلة.
كـنا نعيش الأحداث بصدق، ونؤمن أن الخطر قد يأتي من السماء في أي لحظة 😃 كنا نُصدّق ونحلم ونخاف ونحمي الأرض ونحن لا نزال صغارا.. لكنها كانت مشاعر حقيقية، أجمل من كثير من الواقع اليوم.
شكرا لمرورك الذي أضاء الصفحة، وتحياتي لكِ بحجم ما حملَت أيام الطفولة من فرح وبراءة. 🌹
لعلي من الذين استطاعوا متابعة هذه التحف الجميلة من الانميات…
أختي الكريمة أم سليمان،
بارك الله فيكِ على هذا التعليق الذي جمع بين البساطة والعمق، وبين الدعابة العفوية والوفاء الجميل لذاكرة الطفولة.
ضحكتُ من القلب حين وصفتِ حالة أبي سليمان مع أغنية غريندايزر 😃 صدقتِ والله، الأغنية وحدها تكفي لتقلب موازين العمر نحن لا نشاهد المسلسل فقط، بل نعود معه إلى أماكن وأزمنة ونُسَخ من أنفسنا لا تعوّض.
بالنسبة للدبلجة أيام زمان، فقد كانت مدرسة قائمة بذاتها : أصوات خالدة، موسيقى صادقة، ولهجة عربية مفعمة بجمال اللغة ودفء الأداء.
كلامكِ أختاه جعلني أستعيد ذكريات كل تلك اللحظات التي لا تُنسى، وأشعر بالامتنان الحقيقي أنْ عشنا زمنا كان حتى "الخيال" فيه أكثر واقعية من كثير مما نراه اليوم.
شكرا لتعليقك الجميل الذي أضاف الكثير إلى جوّ المسابقة، وأعاد إلينا بعضا من سحر الطفولة.
جزاك الله خيرا، مهما قلت لن أفي هذا النص حقه
أتفق معك تماما في أن العودة لمثل هذه الأعمال ليست مجرد نوستالجيا ''الحنين للماضي.."، بل هي استحضار لقيم افتقدناها في زمن طغى عليه التكرار والتفاهة
نحتاج اليوم، أكثر من أي وقت مضى، إلى أعمال تحترم الطفل فينا، وتحترم الإنسان
كلماتكَ أخي مصطفى تنضح صدقا ووعيا، ولعل أجمل ما فيها أنها لم تكتفِ بالموافقة، بل أضاءت على جوهر المسألة. نحن لا نعود لتلك الأعمال من باب الحنين فقط، بل لأننا نبحث فيها عمّا افتقدناه في الحاضر.. نبحث عن الصدق في الحكاية والعمق في القيمة والاحترام في الخطاب.
الطفل الذي كُنّـاه لا يزال في دواخلنا، ينتظر من يخاطبه بلغة تليق به. ويا للأسف، كم افتقدنا هذه اللغة في زمن التكرار والسطحية التي ذكرتَها.
صدقت في كل ما قلت أخي أبو فارس :)^^ الطفل الذي كناه لا يزال حيا بداخلنا، لا يكبر ولا يشيخ، بل يظل يبحث عن صدق المشاعر والقيم... وما أكثر ما نفتقد هذا الصدق في أعمال اليوم، التي أُغرقت في الزيف والتكرار دون روح أو مضمون