السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأسعد الله أوقاتكم بكل خير، أيها الإخوة والأخوات، روّاد هذا الصرح الكريم، والمشاركون في أفيائه العامرة بالخير والمعرفة، أبعث إليكم تحيةً طيبةً ملؤها الاحترام والتقدير، ممزوجة بدعوات صادقة لكم جميعًا بدوام التوفيق والسداد، ولإدارة الموقع جزيل الشكر والثناء على جهودها المباركة، وللأخ الفاضل الذي أتاح لنا هذا الطرح القيم، كل الامتنان والعرفان.
أما بعد، فإن من تأمل كتاب الله تعالى، ووقف متدبرًا عند آياته، أدرك أنه ليس كتابًا للتلاوة فحسب، بل هو كتاب هدايةٍ وموعظة، يحوي بين دفتيه دروسًا خالدة ومواقف شاهدة على الحق والباطل، وعلى انتصار النور على الظلام. ومن بين هذه الآيات التي تقف الأرواح إجلالًا أمامها، ما جاء في سورة الأنفال، وتحديدًا في الآية السادسة والثلاثين، حيث يقول الحق تبارك وتعالى في "التفسير الميسر" الذي أعده نخبة من العلماء:
"إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله، فسينفقونها، ثم تكون عليهم حسرة، ثم يُغلبون، والذين كفروا إلى جهنم يُحشرون."
يا لها من آية عظيمة، تشهد على سنةٍ إلهيةٍ ثابتة، وتختصر في كلماتها المحدودة حقائق التاريخ، وتجارب البشر، ومصارع الظالمين. إنها آية تخبرنا عن أولئك الذين لا يبذلون أموالهم في البر والتقوى، بل يسعون بها ليطفئوا نور الله، ويحولوا دون انتشاره، وهم يظنون أن المال وحده كفيل بإسكات الدعوة، وشراء الضمائر، وطمس معالم الحق، ولكن خاب ظنهم، فإنهم ما أن ينفقوا حتى يرتد عليهم إنفاقهم خزيًا وندمًا، وتنقلب أموالهم إلى لعنة تحرق صدورهم، وتكشف سوء نواياهم، ويأتي وعد الله الذي لا يُخلف: "ثم يُغلبون." نعم، يُغلبون رغم جمعهم وعدتهم، يُهزمون رغم قوتهم وظنهم بالسيطرة، لأن الله لا يُغلب، ولأن السنن الإلهية لا تتبدل، ولأن الحق، وإن بدا ضعيفًا في لحظة، فإنه لا يُقهر.
إنها آية تفضح زيف القوة الدنيوية حين تكون موجهة ضد الحق، وتُظهر أن المال حين يُستخدم كوسيلة لعداوة الله ورسوله، فإنه لا يزيد صاحبه إلا هلاكًا وخسرانًا. تأملوا معي كيف أن "الإنفاق" بحد ذاته ليس مذمومًا، بل المذموم هو نية الإنفاق ومقاصده، فإن أنفقت الأموال لنشر الحق، كانت نورًا في الدنيا وذخرًا في الآخرة، وإن أُنفقت لصرف الناس عن سبيل الله، كانت حسرةً في الدنيا ونارًا في الآخرة.
وفي هذا السياق، يبرز عمق البلاغة الإلهية في ترتيب الآية: (سينفقونها)، أي في المستقبل، ثم (تكون عليهم حسرة)، أي في العاقبة، ثم (يُغلبون)، أي في الدنيا، ثم (يُحشرون إلى جهنم)، أي في الآخرة، فجمع الله تعالى لهم الخسران الدنيوي والأخروي، وسطر مصيرهم في حروف من نور لمن أراد البصيرة. وهذا من كمال عدله، وعظيم حكمته، وسعة علمه بما يُضمر البشر في قلوبهم.
إن هذه الآية، أيها الإخوة الكرام، ليست مجرد سردٍ لموقفٍ تاريخي من مواقف المشركين في بدر أو أحد، بل هي قانون رباني يتكرر في كل زمان، إنها تنبيهٌ للأمم والأفراد، وتحذيرٌ من أن يُستخدم المال كأداة في خدمة الباطل، وإنذار بأن الإنفاق في الضلال لا يُثمر إلا الذل، وأن نفقات الأعداء، مهما عظمت، ستُغلب، وستتحول إلى حسرة في قلوبهم، وإلى نارٍ تلظى في الآخرة.
فليكن لنا من هذه الآية عبرة، ولنتخذ منها منطلقًا لتصحيح نياتنا في ما ننفق ونبذل، ولندرك أن الإنفاق في الخير هو السبيل إلى البقاء الحقيقي، وأن المال الذي يُنفق في سبيل الله، هو وحده الذي يثمر ويُبارك. ومن ظن أن المال يحفظه، فإنما يعيش وهماً، فما حفظ الله فهو الباقي، وما حفظته الأموال فهو إلى زوال.
وفي الختام، أجدد شكري للإدارة الموقرة على هذه المساحة الراقية، التي أتاحت لنا التعبير والتأمل والتعلم، وأشكر كل من مرّ على هذه الكلمات، قارئًا أو معقبًا أو متدبرًا، وأشكر الأخ العزيز الذي فتح لنا باب الحديث عن هذه الآية المباركة، وأسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهل القرآن، الذين هم أهله وخاصته، وأن يرزقنا تدبر آياته، والعمل بما فيه، وأن لا يجعلنا ممن استحبوا الضلالة على الهدى، ولا ممن ينفقون في الباطل، بل ممن يبذلون النفس والمال في مرضاته ورضوانه.
#القرآن_نور #التفسير_الميسر #سورة_الأنفال #تدبر_وتأمل