السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأسعد الله أوقاتكم بكل خير وإشراق أيها الأعضاء الكرام، يا من تزينون صفحات هذا المنبر بأقلامكم العذبة، وحروفكم المضيئة، وأرواحكم الراقية… لكم مني كل التحية والاحترام، ومن القلب دعوة صادقة بأن يديم الله عليكم نعمة الفكر، ويجعل دروبكم مكللة بالبصيرة والهداية والسكينة.
حديثنا اليوم يأخذنا إلى عمق البلاغة الربانية، حيث ترتقي الكلمات، ويتسامى المعنى، ويخترق التشبيه حدود التصوير، ليحمل لنا رسائل ربانية تتغلغل في النفس وتُضيء العقول بنور من الفهم والعبرة. إن التشبيه في القرآن الكريم والسنة النبوية ليس مجرد أداة بيانية أو أسلوب بلاغي فحسب، بل هو مفتاح لفهم الحقائق العظيمة، وجسر يصل بين الصورة المحسوسة والمغزى المعنوي العميق، وهو هبة ربانية لخاطبٍ أراد أن ينفذ إلى قلوب الخلق من أقرب الأبواب.
ومن أعجب وأبلغ ما جاء من التشبيهات النبوية، ذلك التشبيه الذي ضربه المصطفى صلى الله عليه وسلم لحامل القرآن غير العامل به، في قوله: "مثلُ صاحبِ القرآنِ كمثلِ صاحبِ الإبلِ المعلَّقةِ، إن عاهَدَ عليها أمسَكَها، وإن أطلقَها ذهبتْ". ما أعظم هذا التشبيه، وما أبلغه من تصوير، وما أعمقه من معنى!
فانظروا يا كرام إلى صاحب الإبل المعلّقة، التي هي مربوطة عند باب بيته، في متناول يده، يستطيع أن يستفيد منها في كل وقت، لكنها في الوقت نفسه ليست مُلكًا حقيقيًا ما لم يرعاها، ويعتني بها، ويُمسك بخيوط قيادها. كذلك هو القرآن الكريم، إن حفظه الإنسان ولم يعمل به، أو تهاون في مراجعته، أو ظن أنه بمجرد الحفظ قد أدّى حقّه، فإنه قد أضاع الأمانة وترك الهداية التي أُوتيها، ففرّت معانيه من قلبه، كما تنفر الإبل من صاحبها إن أهملها ولم يشدّ وثاقها.
التشبيه هنا يكشف عن طبيعة العلاقة بين الإنسان والقرآن، علاقة تتطلب دوام المجاهدة، والحرص، والتدبّر، والمراجعة، والعمل. ليس الحفظ غاية، وإنما هو وسيلة لما هو أسمى: التطبيق والاهتداء. فالقرآن كالإبل المربوطة، إن لم تمسك زمامها بجدّ ووعي، فإنها ستنفر، ويذهب خيرها، ولا يبقى لك منها سوى الحسرة.
وهكذا يُعلّمنا هذا التشبيه أن النعمة إذا لم تُصن تضيع، وأن العلم إذا لم يُعمل به يتحول إلى حُجّة على صاحبه، لا له، وأن الهداية لا تُمنح دفعة واحدة ثم تُترك، بل هي نهر جارٍ لا بدّ من الشرب منه باستمرار، ومن لم ينهل منه، عطش قلبه وجفّ إيمانه، وتاه عن الطريق.
وليس ذلك خاصًا بحفظ القرآن فقط، بل بكل علم شرعي، وبكل نعمة من نعم الله. فمن رزقه الله سمعًا ولم يُصغِ به للحق، فكأنما صُكّت أذناه. ومن آتاه الله فصاحة لسان ولم ينصر بها المظلوم أو يدعُ بها إلى الخير، فكأنما خرس لسانه. ومن أُعطي قلبًا ولم يسكنه النور، فلا فرق بينه وبين القلب المتحجّر.
أيها الأفاضل، إن ما أعظم أن نقف وقفة تأمل أمام هذا التشبيه، فنتعلّم منه أن القرب من القرآن ليس بالحفظ وحده، بل بالمداومة عليه، وبالعمل به، وبالخشية من أن نُحرم نوره بسبب الغفلة. كم من حافظٍ لكتاب الله لم يتدبّر معانيه، وكم من قارئٍ لم يتجاوز القرآن حنجرته، وكم من عقلٍ حوى الكلمات، لكن قلبه ظل خاليًا من الهداية!
فلنراجع أنفسنا، ولنتشبّث بحبل الله المتين، ولنحمل القرآن كما أمرنا أن نحمله، علماً وعملاً، أخلاقًا وسلوكًا، دعوةً وإصلاحًا. فخيرُ الناس من تعلّم القرآن وعلّمه، لا من حفظه ثم نسيه، أو أودعه في صدره ثم أغلق عليه الأبواب.
في الختام، لا يسعني إلا أن أرفع أسمى عبارات الشكر والتقدير لإدارة هذا الموقع المبارك، التي أتاحت لنا فرصة اللقاء في رحاب الفكر والنور، وللأخ الكريم الذي ألهمنا هذا الطرح الجميل، ولكل الأعضاء النبيلين، الذين لا تملّ الحروف من الإبحار معهم في عوالم المعنى والفضيلة.
#القرآن_نور #التشبيهات_النبوية #العمل_بالعلم #صاحب_الإبل_المعقلة