السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأسعد الله أوقاتكم بكل خير ومحبة، أيها الأعضاء الكرام، إخوتي في الفكر والكلمة، والباحثين عن النور في عمق المعاني، وعن السكينة في ظلال التدبر، وعن الهداية بين آياتٍ أنزلت لتوقظ القلوب وتغسل الأرواح من غبار الغفلة... تحية طيبة ملؤها الاحترام والتقدير لكم جميعًا، ولإدارة هذا الصرح المبارك، ولكل من ساهم في بناء هذا الفضاء الراقي بالكلمة والخلق والمعنى، ولك أخي الكريم الذي فتحت لنا نافذةً من التأمل في كتاب الله، فجزاك الله عنّا خير الجزاء.
حين نقف مع قوله تعالى من سورة البقرة: "وَلَـٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ"، فإننا لا نقف فقط أمام تركيب لغوي أو معنى سطحي، بل نحن في حضرة قانونٍ إلهيٍّ يرسم بدقةٍ ميزان العدل والرحمة، ويفتح أمام الإنسان باب فهمٍ عميق لنفسه، ولمدى مسؤوليته أمام الله، لا من خلال الألفاظ العابرة، ولا من زلات اللسان، ولكن من لبّ الحقيقة وعمق النية، ومن حيث موضع القرار والتصميم: القلب.
ما أعظم هذا التعبير الإلهي حين يربط "المؤاخذة" بما كسبت القلوب، لا بما تلفظت به الألسن دون قصد، ولا بما جال في الخاطر دون تعمد. إن القلب هنا ليس مجرد عضو، بل هو مركز الوعي، ومحلّ النية، ومكان اتخاذ القرار الأخلاقي والروحي. إنه الموضع الذي ينعقد فيه العزم، وتُبنى عليه الإرادة. فالله جلّ جلاله لا يحاسب الإنسان على الخواطر العابرة، ولا على ما يجري في عقله من صراعٍ بين الحق والباطل، ما دام لم يرسُ على شاطئ القرار. أما إن انقدح الشر في القلب، وارتضته النفس، وعزم عليه الفؤاد، فهناك تقع المؤاخذة، لأن الكسب قد تحقق، والنية قد انعقدت، والاختيار صار فعلاً، ولو لم يُنفذ.
في هذه الآية نلمس عمق رحمة الله وعدله، حيث رفع عن الإنسان الحرج، ولم يحمّله وزر ما لا يملك دفعه من وساوس أو لغو، لكنه في ذات الوقت حمّله مسؤولية ما يختاره بحرّ إرادته. ومن هنا فإن التقوى لا تكون في الظاهر وحده، بل في خفايا النية، وفي سريرة القلب، وفي صدق الإقبال على الله. ومتى ما طاب القلب، طابت الجوارح، وإن خبثت السريرة، لم ينفع تزيين الظواهر.
ولعل أعظم ما ندركه من هذا البيان الرباني، هو أن رحلة الإنسان في الإيمان، يجب أن تكون رحلة صدق مع الذات، لا خداعًا ظاهريًا. فكم من لسانٍ نطق بالخير، وقلبه مائل إلى الشر، وكم من عملٍ ظاهره البر، وباطنه رياء. ولكن الله لا تخفى عليه خافية، وهو العليم بسرائر القلوب، البصير بما تخفي الصدور.
أحبتي الكرام، فلنقف طويلًا أمام هذه الآية، ولنجعلها معيارًا نراجع به نوايانا، ونزكي به قلوبنا، ونطهّر به أعماقنا، حتى تكون أعمالنا نقية صافية، خالصة لوجه الله، بعيدة عن شوائب النفس والهوى. ولنحذر من كسب القلوب لما يسخط الله، ولو سترناه عن الناس، فالله يعلم، وهو وحده من يملك أن يؤاخذ أو يعفو.
في الختام، لا يسعني إلا أن أتقدم بخالص الشكر والتقدير لإدارة هذا الموقع الكريم، لما تبذله من جهد في خلق بيئة حوارية راقية تفتح لنا آفاق الفهم والتأمل، ولكل من شارك بقلبه وعقله في هذا النقاش الإيماني العميق، ولك أخي صاحب الطرح على هذه اللفتة المباركة، التي أعادت قلوبنا إلى نور كتاب الله. أسأل الله أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن يزكّي قلوبنا، ويجعلها مستودعًا للطهارة والخشية والمحبة، لا للهوى والغل والغفلة.
دمتم بخير، ودامت أرواحكم معلقة بالنور والإيمان.