السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وتحية طيبة مباركة أزفها إليكم أيها الإخوة الكرام، أعضاء هذا الصرح المبارك، روّاد الفكر، ورفقاء النور، ومنابر العلم، الذين تنبض في قلوبهم أنفاس التأمل، وتزهر في عقولهم براعم التدبّر، وتنتعش في نفوسهم روائح الحق، ويستضيئون بضياء القرآن، ويغتسلون بكلماته كما يغتسل القلب في غمرة الطهر والخشوع. فسلام عليكم في البدء، وسلام عليكم في الحضور، وسلام عليكم ما دام في القلب نبضٌ يتوق إلى المعاني العظيمة واللطائف الربانية التي تحملها آيات الكتاب العزيز.

أما بعد، فإننا اليوم بصدد الوقوف بخشوع أمام نفحة من نفحات سورة البقرة، تلك السورة العظيمة التي هي أمّ القرآن الفقهية، وحصن المسلم من كل بليّة، وفيها من الأحكام والآداب والتشريعات ما يُرسي قواعد المجتمع المسلم ويهذّب مشاعره وسلوكياته، لتغدو الحياة وفقًا لها معراجًا إلى الرقي والطهارة والعفاف.

نقف اليوم عند قوله تعالى: ﴿فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ﴾، وهي آية من آيات الأحكام التي أنزلها الله تبارك وتعالى رحمةً بعباده، وهدايةً لعبور أزمنة الجهالة، ولإقامة نظام الطهارة الجسدية والنفسية في أقدس علاقة إنسانية، علاقة الزوجين، التي متى ما تنزّهت عن الجهل وتطهّرت من العشوائية، أصبحت جسرًا من الرحمة والمودة لا من الغريزة المجردة.

إن التأمل في هذه الآية يكشف لنا عمق التوجيه الإلهي، وعظمة التشريع الرباني، حيث أن الله جل جلاله لم ينهَ عن العلاقة الزوجية وقت الحيض فحسب، بل علّمنا كيف يكون الرجوع إليها بعد انقضاء الأذى، فاشترط الطهارة، ثم حدّد المكان المشروع للعلاقة، قائلاً: "من حيث أمركم الله"، أي من موضع الولد، الموضع الذي خلقه الله لمقاصد سامية، لا مواضع أخرى قد تجرّ الإنسان إلى الفطرة المنحرفة والشهوة الشاذة. وهذا التفصيل القرآني ليس مجرد حكم فقهي بحت، بل هو تربية روحية، وضبط للسلوك البشري، وتنقية للنفس من الانحدار نحو البهيمية. فالطهارة في الآية ليست ماءً فقط، بل هي ارتقاء، هي طُهر فكري، وانضباط أخلاقي، وطاعة قلبية لأوامر الرحمن.

ولك أن تتأمل كيف ربطت الآية بين الطهارة وبين الإتيان، كأنها تقول للإنسان: لا تقترب من اللذة إلا وقد طهّرت نفسك، لا تلامس الحلال إلا وقد ارتقيت في نيتك، لا تدخل في العلاقة الزوجية إلا وفيك خشية لله، ووعي بجلال هذا الرباط المقدس. إنه منهج حياة يعلّمنا أن الطهارة ليست لحظة، بل حالة، وأن الطاعة ليست مجرد فعل، بل وعيٌ متجذّر ينمو في القلب قبل أن يظهر في الجوارح.

ثم تأمل عبارة "من حيث أمركم الله"، كأن الله يريد أن يقول لنا: لا تستبيحوا إلا ما أذنتُ به، ولا تسيروا خلف شهواتكم، بل قفوا عند حدودي، فإن الطاعة في العلاقة الزوجية طاعة في الحب، وطاعة في القرب، وطاعة في الغريزة التي أمر الله بأن تكون مباركة، لا دَنِسة، مشروعة، لا متفلتة، مضبوطة لا فوضوية. فمن أراد السعادة في العلاقة الزوجية، فعليه أن يلبس ثوب الطهارة، ويتوشّح بنور الطاعة، ويسير في درب الطهارة الربانية التي رسمها لنا خالق الأجساد والقلوب.

ويا لَجمال القرآن، حين يعلّمنا الطهر، ويأمرنا بالنقاء، ويربّينا في أدق تفاصيلنا، لنغدو عبادًا نعيش الحب في إطار من الطاعة، ونحيا القرب في حضن من التقوى، ونسير في متاهات الحياة وفي صدورنا بوصلات من نور الآيات.

ختامًا، أرفع أسمى آيات الشكر والتقدير لإدارة هذا الموقع المبارك، ولمنبر الفكر الذي منحنا الفرصة للتعبير والتأمل والمشاركة، وللأخ الكريم الذي أثار هذا الموضوع القرآني الراقي، وجعلنا نغوص في بحره ونتلمّس درره، فجزاه الله عنّا خير الجزاء، وبارك الله فيه وفي طرحه.

#القرآن_نور_القلوب #سورة_البقرة_هداية #الطهارة_سلوك_حياة #منهج_الله_نور_للناس