السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأسعد الله أوقاتكم بكل خير، إخوتي وأخواتي الأعضاء الكرام في هذا الصرح المبارك، الذي يجمعنا على المحبة والعلم والنقاش الهادف، وأشكر الإدارة الموقرة على جهودها العظيمة، وأشكر هذا الموقع الذي فتح لنا نوافذ الفكر والبصيرة، وأتقدم بالشكر الجزيل للأخ الكريم الذي أتاح لنا هذه المساحة المباركة للتأمل والتدبر.
إننا نقف اليوم مع آية من كتاب الله العظيم، من سورة البقرة، تلك السورة التي جمعت من الأوامر والنواهي، والقصص والعبر، والأحكام والحِكَم، ما جعلها قلب القرآن النابض بالحياة، وركناً متيناً لمن أراد أن يسير على صراط مستقيم. نتأمل قوله تعالى: "يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما"، وهذه الآية الكريمة تُعد من دلائل التدرج الرباني في التشريع، ومن أعظم الشواهد على عناية الله بعباده، وتدرجه بهم حتى يألفوا النور بعد أن عاشوا في ظلمة، وحتى يدركوا الحق بقلبٍ خالٍ من شوائب الجاهلية.
في قوله تعالى: "قل فيهما إثم كبير"، تتجلى حكمة البلاغة الإلهية، إذ لم يأتِ النهي صريحاً في البداية، وإنما وُضِعت موازين عقلية رصينة، وكُشِف للناس خطر ما اعتادوه وألفوه. والإثم هنا لم يُذكر جزافاً، بل قُرن بـ "كبير"، لتُغرس في الوعي البشري خطورة هذه المعاصي، ولتبدأ النفس بالتفكر والمقارنة بين منفعةٍ عابرة، وضررٍ ممتد، بين لذةٍ لحظية، وعقوبةٍ أخروية، بين نشوةٍ وقتية، وذلٍ دائم. وهذا من عمق التربية الربانية التي لا تفرض الحظر بالقوة وحدها، بل تفتح للإنسان باب العقل والوعي ليهتدي بنفسه إلى الحق، وليرى ببصيرته أنه ما من معصيةٍ إلا ووراءها ألم، وما من شهوةٍ حرام إلا وأعقبها خزيٌ وندم.
إن الخمر والميسر، وإن بدت لهما منافع في أعين الناس، من متعة أو مكسب سريع، إلا أن الله جل وعلا، وهو العليم الخبير، بين أن "إثمهما أكبر من نفعهما"، وهذه العبارة كفيلة أن تُحدث زلزلة في قلب كل مؤمن، فكيف يجدر بعاقل أن يسعى لشيءٍ رجحت كفة ضرره على نفعه؟ وكيف يستسلم إنسان لشيءٍ يُفسد عقله، ويخدش حياءه، ويفرق بين قلبه ومن يحب، ويجعل روحه رهينة لشيطان الهوى؟
أيها الأحبة الكرام، إن هذا الخطاب القرآني ليس مجرد بيان فقهي، بل هو نداءٌ رحيم، ينقذ الإنسان من مستنقعات التهور، ويرتقي به إلى مراتب الطهر والعقلانية، وهو أيضاً درس في فن الإصلاح التدريجي، حيث تتجلى الرحمة الربانية في عدم القفز على فطرة الناس دفعة واحدة، بل بأناة، وبأسلوب يجعل القلوب تتعلق بالحق حباً لا قسراً، واختياراً لا إجباراً.
فما أحوجنا اليوم إلى هذا النموذج القرآني في إصلاح مجتمعاتنا، وتربية أنفسنا، وتوجيه أبنائنا! ما أحوجنا إلى أن نغرس في قلوبهم قيمة التعقل، وأن نعلمهم أن ليس كل ما يلمع ذهباً، وأن كثيراً مما يبدو نافعاً يخفي في طياته هلاكاً! فالمقياس الحقيقي ليس اللذة ولا المال، بل هو رضى الله وسلامة القلب والعقل.
ختاماً، أجدد التحية لإدارة هذا الموقع الرائع، وأتقدم بخالص الشكر والتقدير للأخ الذي فتح لنا نافذة للتأمل والتدبر، وأسأل الله أن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن يرزقنا نور البصيرة، وحلاوة الطاعة، وأن يجنبنا كل ما يُغضبه سبحانه ويُسخطه.
#التدبر_نور #سورة_البقرة #القرآن_حياة #إثم_كبير