السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأسعد الله أوقاتكم بكل خير أيها الأعضاء الكرام، أصحاب الفكر النيّر، والقلوب الطيّبة، والعقول المتأملة المتدبرة... تحية يعبق شذاها من عبير الإيمان، وتعلو في سماء المحبة والإخاء، تُهدى إليكم بكل إجلالٍ واحترام، فأنتم نجوم هذا الفضاء الرحب، وقلوبكم مزينةٌ بحب العلم والمعرفة والقرآن.
نقف اليوم وقفةَ تأملٍ وخشوع أمام آية عظيمة من كتاب الله العزيز، سورة الأنفال، الآية الخامسة والثلاثون، حيث يقول الله تعالى: "وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاءً وتصديةً فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون"، وهي آية تحمل في طياتها دلالاتٍ عميقة، ورسائلَ إلهيةٍ صارخة، تكشف لنا الستار عن حال قومٍ جعلوا من العبادة سخرية، ومن الصلاة لهواً ولعباً، واستبدلوا المقصد السامي بالطريقة العبثية، فتجلت أفعالهم في أصواتٍ تافهة كالمكاء والتصدية، لا تعبر عن خشوع ولا عن إخلاص، بل عن قلوبٍ قد ران عليها الكفر والجهل والتكبر.
في هذه الآية الكريمة، وعبر التفسير الميسر الذي أعدته نخبة من العلماء الأجلّاء، يتضح لنا أن "المكاء" هو التصفير، و"التصدية" هي التصفيق، وهكذا كان حال كفار قريش حين يقفون عند البيت الحرام، في موضع الطهر والقداسة، لا يؤدون الصلاة على وجهها الحق، بل يأتونها متلاعبين، ليصدوا عن سبيل الله، ويحولوا بيت الله إلى مسرحٍ للعبث لا إلى محراب للعبادة. لقد كانوا يظنون أنهم بذلك يحتالون على الدين، ويظهرون التباهي والزهو أمام أتباعهم، غافلين عن حقيقة أن الله مطلعٌ على ما في صدورهم، وأن العاقبة وخيمة، والعذاب في انتظارهم، لأنهم بدلوا النور ظلامًا، والهدى تيهًا، والسجود صفيرًا وتصفيقًا.
إن هذه الآية تقرع قلوبنا قرعًا، وتوقظ أرواحنا من سباتها، لتخبرنا أن العبادة ليست بالأشكال فقط، بل بالجوهر، بالإخلاص، بالنية، بالصدق، بالتجرد من الهوى والرياء. إنها تحذرنا من أن تصبح عباداتنا عاداتٍ فارغة، أو طقوسًا شكلية، خالية من الاتصال الحقيقي بالله، خالية من الخضوع والخشية. فكم من مصلٍّ لم ينل من صلاته إلا التعب، وكم من قارئ للقرآن لم يجد فيه إلا الحروف. فالقرآن لا يضيء الظلمات إلا إذا دخل إلى القلب، والصلاة لا ترفع إلى السماء إلا إذا خرجت من قلبٍ ساجدٍ قبل أن تسجد الجوارح.
أحبتي الكرام، إن في هذه الآية درسًا لا يقدر بثمن، وموعظةً لمن كان له قلب، فهي تدعونا إلى مراجعة أنفسنا، إلى تجديد نوايانا، إلى إعادة صياغة علاقتنا بالله، إلى التأمل في عباداتنا، هل تؤدى كما أمر الله؟ أم أنها مجرد طقوس موروثة اعتدناها؟ فلنحرص على أن تكون صلاتنا لله خالصة، قائمة على الخشوع والتقوى، لا كصلاة أولئك الذين ضلوا فأضلوا.
وفي ختام هذا المقام، لا يسعني إلا أن أرفع أسمى آيات الشكر والتقدير والعرفان لإدارة هذا الموقع المبارك، على جهودهم الكريمة في توفير هذا الفضاء الفكري الرفيع، كما أقدم جزيل الشكر والعرفان للأخ الكريم صاحب الطرح، الذي فتح لنا بابًا للتأمل والتدبر في كلام الله العزيز، جزاه الله عنا كل خير، وبارك له في علمه وعمره، ونفع به الأمة.
نسأل الله أن يجعلنا من الذين إذا تُليت عليهم آياته زادتهم إيمانًا، وإذا سجدوا له، سجدت قلوبهم قبل جباههم، وأن يرزقنا صلاةً ترضيه، وقرآنًا يهدي أرواحنا في ظلمات الحياة.
#القرآن_نور #تدبر_الآيات #سورة_الأنفال #الصلاة_خشوع_لا_شكليات