لعنة الورق

في قرية منسية على أطراف الغابة، حيث لا يمر الوقت إلا متثاقلا كأنّه يجرّ خلفه أذيال قرونٍ من الأسرار، عُثر على دفتر جلديّ قديم، مدفون تحت جذع شجرة عتيقة. لم يره أحد من قبل، ولا أحد يعرف كيف وُجد هناك، إلا أنّه حين فُتح، تغيّر كل شيء.كانت الصفحات الأولى منه بيضاء، كأنّها تنتظر من يُدوّن فيها ما لا يُقال. لكن الغريب، أن كل من حاول الكـتابة فيه، اختفى بعدها بأيام دون أثر.
سُميت تلك الظاهرة في القرية بـ"لعنة الورق"، وسرعان ما حُفِظ الدفتر في صندوق حديدي داخل زاوية القرية حيث يرقد أحد أولياء الله الصالحين، فلم يكن يجرؤ أحد على الاقتراب منه، إلى أن جاء وائل، الشاب القادم من المدينة، بعينين لا تعرفان الخوف، وبفضولٍ لا يشبع. لم يؤمن بالخرافات، ولا باللعنات. كان يقول: “لا شيء يُخيف العقل إن كان منطقك سيفك.”
في إحدى الليالي الماطرة، تسلّل إلى الزاوية، كمن يسرق سرًا من صدر الزمن. فتح الصندوق، وأخذ الدفتر وعاد إلى كوخه الخشبي على حافة النهر. وما إن بدأ في تقليب الصفحات، حتى ظهرت كلمات لم يكتبها أحد. سطورٌ بلغةٍ مهشّمة، كأنّها كُتبت بالرماد، تـتشكّل وتذوب كما تـتنفس الأحلام. لكنها كانت مفهومة لوائل، كأنها خُطّت بداخل ذهنه لا على الورق.
كانت تحكي عن رجلٍ يُدعى أبو شعيب، حارس الزمن، الذي اختار أن يدفن ذاكرته في الدفتر، هربا من لعنة الخلود. ومن يقرأ ما كتبه، يصبح الوريث والضحية في الآن نفسه. ضحك وائل، وكتب في الصفحة الأخيرة: “أنا لست خائفا، فلتبدأ اللعبة !.”
في الصباح، لم يكن هناك أثر له. الكوخ خالٍ، النار لم تُطفأ، والدفتر مفتوحٌ على الصفحة التي كتب فيها لكن العبارة الأخيرة تغيّرت. أصبحت تقول: “الآن، أنا الحارس. مَن التالي ؟”

مرّت ثلاث سنوات على اختفاء وائل، والقرية عادت إلى صمتها المعتاد، كأنّها طوت الصفحة أو تظاهرت بذلك. لكن بعض العيون، كانت لا تزال تـتفقد ضوء الكوخ كل مساء، وتعدّ خطوات الليل تحسّبا لنبضٍ قد يعود من الغياب.
في المدينة، كانت ليلى، أخت وائل الصغرى، قد كبرت على الأسئلة. لم تصدّق الرواية الرسمية : "اختفى خلال رحلة إلى الريف"، ولم تُقنعها دموع أمها، ولا نظرات أبيها المتحجرة كالصخر. كانت تشعر بشيء آخر.. نداء غامض، كأنّ وائل لم يختف، بل ترك لها شيئا لتكمله.
حين بلغت الخامسة والعشرين، عادتْ ليلى إلى القرية لأول مرة، تحمل صورتين : إحداهما لوائل، والأخرى لدفتر جلديّ، رسمه لها في آخر رسالة كتبها بيده، قبل أن يختفي.
سألتْ عن الكوخ. وجدتْ بابه مخلوعا، وغباره ساكـنـا. لكن ما شدّها لم يكن الأثاث المتناثر، بل رائحة الورق القديم، تشبه رائحة الحبر حين يمتزج بالرماد. وتحت ألواح الأرضية المتشققة، وجدت الدفتر. أخذه قلبها قبل يدها. وفتحت الصفحة الأخيرة،كانت هناك عبارة واحدة : “مرحبًا بكِ، ليلى.”
ارتعدتْ أصابعها، لكنها لم تتراجع. وقبل أن تكتب أي شيء، بدأت الصفحات تقلب نفسها، كأنها تستعرض حياتها من البداية : طفولتها، وحدتها، لحظاتها مع وائل، أحلامها، وحتى ذاك السرّ الذي لم تبح به لأحد : الحلم الذي كانت تراه كل ليلة، منذ اختفائه : باب خشبي في وسط البحر، يُفتح على ضوءٍ لا يُحتمل. وفي الصفحة التالية، ظهرتْ خريطة، لا لمدينة، ولا لغابة، بل لشيء يشبه المتاهة، تـتقاطع طرقه في مركزٍ داكن، كُتب فوقه: “هنا بدأ أبو شعيب .. وهنا عاد.”
همستْ ليلى: “أخي، ماذا وجدت ؟ وماذا تُريدني أن أجد ؟” ، لكن الدفتر لم يجب.
في الليلة التالية، بدأتْ ترى الباب في الحلم من جديد. لكنه لم يكن على سطح البحر.. بل في منتصف القرية. والقرية، لم تكن كما تـتذكّرها.
في الليلة الثالثة من عودتها، وقفتْ ليلى في ساحة القرية القديمة. البرد كان ناعما كالهمس، والضباب يتلوّى حول الأشجار مثل ذكرياتٍ تخجل من الظهور. كانت الخريطة بين يديها، والنجوم فوقها، ترشدها بصمت كأنها تعرف.
هناك، تحت ضوء فانوس قديم، كان الباب. بابٌ خشبيّ، وحيدٌ، لا يُفضي إلى جدار ولا بيت. فقط واقف، كأنّه خرج من حلمٍ نُسي في منتصف الطريق. اقتربتْ ليلى. وضعتْ يدها على المقبض.كان بارداً .. لا، بل حيًّا. وفجأة، شعرتْ به ينبض، نبضا بطيئا وثقيلا، كما لو كان قلبا بشريّا يستيقظ بعد نوم طويل.
همس في أذنها صوتٌ لم تسمعه منذ سنوات: “هل ستدخلين ؟”
تجمَّدتْ ليلى .. كان صوت وائل. واضحا. عميقا. وكأنّه واقف خلف الباب مباشرة.
لكنها لم تجب، بل كتبتْ في الدفتر الذي تحمله: “أنا هنا، أريد أن أفهم.”
فانفتح الباب، ليس بصوت، بل بصمت غامر، كأنّ العالم انكمش لحظة دخوله. وخلفه .. لم يكن هناك مكان، بل زمن.
رأتْ نفسها في الطفولة، تسير وراء وائل في الغابة، ثم رأت وائل وحده، يفتح الدفتر لأول مرة. ثم رأتْ أبا شعيب، رجلٌ بوجهٍ لم تكتمل ملامحه، وعينين لا تنظران، بل تبتلعان.
قال أبو شعيب لوائل : “من يكتب في الدفتر، لا يحكي القصة .. بل يعيشها.”
فهمَتْ ليلى حينها : ما دوّنه وائل لم يكن سردا .. بل باباً. والآن، هي على العتبة، وإن خطتْ خطوةً واحدة، فلن تعود ليلى التي كانت.
نظرتْ إلى الوراء، إلى القرية، إلى الضوء البعيد فوق الزاوية، ثم تقدّمتْ .. دخلتْ .. وفي اللحظة التي اختفتْ فيها خلف الباب، اختفى الباب نفسه وكأن شيئا لم يكن.
لكن في صباح اليوم التالي، وُجد دفترٌ جديد .. على عتبة الكوخ، صفحاتُه الأولى بيضاء، وفي الوسط .. سطرٌ واحد :
“الحكاية لا تبدأ حين نكتب، بل حين نضيع.”

أبو فارس
🌹