السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وتحية طيبة معطرة بندى التقدير والاحترام لكل الإخوة والأخوات الأعضاء الكرام، ولمجلس إدارة هذا الموقع الأصيل، الذي يمنحنا دومًا فضاءات الفكر، ومساحات النقاش الهادئ، ومنابر التعبير الواعي عن مفاهيم الحياة وقضايا الإنسان. كما لا يفوتني أن أخصّ بالشكر والثناء الأخ الفاضل صاحب هذا الطرح الراقي، الذي لامس أعماق النفس الإنسانية، حين أشار إلى قضية من أرقى ما صاغه علم النفس المعاصر، وأشدّه ارتباطًا بتنوّع البشر واختلاف طرائقهم في الفهم والتفاعل والإدراك، تلك هي قضية "الأنماط الإدراكية"، التي تنقسم إلى ثلاثة أبعاد محورية: البصري، والسمعي، والشعوري.
وحين نغوص في هذه الأنماط، فإننا لا نقف عند حدود تصنيف عقلي بارد، أو ترفٍ معرفي عابر، بل نحن إزاء فهم حيوي يُساعدنا على فك شيفرة التواصل بيننا وبين الآخرين، ويوفّر لنا البصيرة اللازمة لنُدرِك كيف يُفكر الناس، وكيف يتفاعلون، وكيف يبنون أفكارهم ومواقفهم وسلوكياتهم. فالإدراك البشري، وإن بدا ظاهرًا متشابهًا، إلا أنه في العمق، متعدد الطبقات، متنوع المسارات، وتتحكم فيه قنوات حسية تُشكّل بوابة العبور نحو المعنى والانفعال والقرار. ولهذا، فإن إدراك الإنسان ليس فقط ما يمرّ به من أحداث، بل ما يُرشّحه عقله من هذه الأحداث عبر أدواته الحسية التي يفضّلها ويثق بها.
فالإنسان البصري، هو ذاك الذي يرى العالم كما لو أنه معرض صور متحركة، يتلقّى الأفكار عبر المشهد، ويفهم من خلال الصورة، ويتذكّر عن طريق اللون، ويُعبّر بأسلوب تشكيلي حتى في كلماته، فتراه يقول: "أرى فكرتك"، "الصورة غير واضحة"، "المشهد مؤثر"... هو مرهف تجاه التناسق، والجمال البصري، والتفاصيل الحركية، ويبني أحكامه بناءً على ما يُشاهد ويتخيل، لا ما يسمع أو يشعر. ومن يتعامل مع البصري عليه أن يخاطبه بالصورة، أن يشرح له بالخرائط والرسوم، أن يضع أمامه الشكل العام للمعلومة، لا مجرد كلمات تتناثر في الأذن.
أما النمط السمعي، فهو روحٌ موسيقيةٌ، تمتص العالم من خلال الأذن، يتناغم مع نبرة الصوت، يتعلّم عبر الحوار، ويُحب الجدل الراقي، ويُنصت قبل أن يُقرّر. كلماته تُشبه اللحن، ومفرداته تُعبر عن الإيقاع الداخلي لفكره، فهو يقول: "أسمعك جيدًا"، "نغمة حديثك مقنعة"، "الكلام منطقي"... هو ابن اللغة، وابن الصوت، لا يقتنع حتى يسمع، ولا يتفاعل حتى يُدرك التردد الذي تُرسل منه الرسالة. يحتاج في تواصله إلى نقاش، إلى صوتٍ حنون أو حازم، إلى لغة منطوقة تُشعره بصدق الفكرة أو زيفها.
وأما النمط الشعوري، أو الحسي، فهو إنسان الداخل، ذاك الذي يعيش العالم كعاطفة، ويُدرك الأمور من خلال إحساسه، لا صورها ولا أصواتها، بل وقعها عليه. يتأمل الشعور قبل أن يحكم، ويتناغم مع الأحاسيس قبل أن يتحدث، ويدخل إلى الأفكار من باب القلب، لا من نافذة العين أو الأذن. يقول: "أشعر بأن كلامك صادق"، "أرتاح لهذه الفكرة"، "الأمر يؤلمني"... هو كائن داخلي بامتياز، يرى من خلال الشعور، ويتفاعل بحسب ما تهبه له المواقف من دفء أو برودة عاطفية. التواصل معه يحتاج إلى تعاطف، إلى دفء في الحديث، إلى لمسة وجدانية تشعره بالأمان وتفتح له أبواب التقبل.
وحين نتمعّن في هذه الأنماط، ندرك أن الفشل في التواصل غالبًا لا يعود إلى قبح الفكرة، بل إلى سوء اختيار قناة الإدراك، فكم من كلمة صادقة سقطت لأن السامع كان بصريًا، وكم من حوار صادق لم يلامس القلب لأن المُخاطب شعوري، وكَم من صورة جميلة لم تصل لأن المتلقّي كان سمعي الهوى. وحين نعرف أن الناس ليسوا نسخة واحدة، ولا قالبًا مكررًا، فإننا نزداد رحمة بهم، وذكاء في التعامل معهم، وتفهّمًا لتنوع طرائقهم في الفهم والاستقبال والاستجابة.
وليس هذا العلم ترفًا، بل هو من أهم أدوات التربية والتعليم والإدارة، لأن المربي أو القائد أو الوالد، إذا لم يعرف نمط من يخاطبه، سيُخاطبه بلغة لا يسمعها، أو صورة لا يراها، أو شعور لا يحسّه. وهنا تكمن المعاناة في العلاقات، لأن كل واحدٍ يبذل الجهد، لكن بلغةٍ لا تصل. أما حين نُتقن مخاطبة كل فرد بلغته الإدراكية، فإننا نُغلق أبواب الصدام، ونفتح نوافذ الفهم والتقارب.
إن وعي الأنماط الإدراكية ليس مجرد تصنيفٍ نفسي، بل هو عدسة نرى بها العالم، ومرآة نرى بها أنفسنا، وطريق نصل به إلى عقول الآخرين وقلوبهم، ونبني من خلاله جسور الثقة، ومفاتيح التأثير. وإذا كنا نطمح إلى أن نكون رسلَ فكرةٍ أو مشروعٍ أو دعوة، فعلينا أولًا أن نُتقن لغات الإدراك الثلاث، وأن نُدرك بأن الإنسان ليس ما يقول فحسب، بل ما يشعر ويرى ويسمع.
فالشكر الجزيل لإدارة الموقع على هذه المساحة الفكرية الفاخرة، التي تتيح لنا مثل هذه الحوارات الراقية، والشكر موصول للأخ الكريم الذي فتح لنا باب التأمل في قضية عميقة بهذا الحجم، ولجميع من قرأ وتأمّل وشارك، وأسأل الله أن نرتقي دومًا بمعرفتنا وسلوكنا، وأن نجعل من اختلاف أنماطنا الإدراكية فرصة للفهم، لا سببًا لسوء الفهم.
#الأنماط_الإدراكية #التواصل_الفعال #فهم_الإنسان #لغة_العقل_والقلب