أكره الأعياد لأنّ صخبَ الفرح يوقظُ يُتم الأشياء بداخلي . أكرهُ بالتحديدِ الإتصالات التي تَردني و كلّ التي لا تصلني ، أختنقُ من كلّ الصور و الفيديوهات التي تُنشر على مواقع التواصل الاجتماعي تباهيًا بِ«لمة العائلة» في حين لا أذكر آخر مرةٍ إستمعتُ بها بضجيج الأسرة . أمقتُ الإبتسامة المتعصرة التي أبصقها على شفتيّ ، الحوارات المملة التي أخوضها مع من يبتهجُ -حقًا- بالعيدِ ، الأشخاص الذين يرددون : " تبًا إشتقناك" و في المقابل يختفون اليومَ التالي .
هكذا ، أذكرُ صبيحةَ كل عيدٍ و ما تحملُ معها من وجعٍ .أراني مستلقيةً مع أنني قد نلتُ قسطًا كافيًا من النوم إلاّ أن أطرافي تتشنج و كأن بها مس من إصابة رياضية . أتصورني مجددًا و أنا أترنح يمينًا دون أن أتمكن من تزيين نفسي فأيّ مجهودِ أحاول بذله هو بمثابةِ ندبة روحيةٍ . أسترجعُ ذكرياتِي لفرطِ ما عشتُها مرارًا : أمي التي تنتحبُ موتَ والديها تماما كالمرّة الأولى ، أبي الذي لا يعايدها و كأن العيد إمتدادٌ لبغضهما، أخي الذي تخلى تمامًا عن الإحتفالِ كونه أكثرَ شجاعةً مني ثم هنالك أنا و محاولاتي المستميتة للرقص فوق أنقاض الحزن .
ما الأكثر إيلامًا من أن ينفخ المرء شموعَ حياتهِ الواحدة تلو الأخرى متمنيًا قدرًا مغايرًا أو حتّى بدايةً جديدةً تعفيه من الحظو بالمركز الأول في سباق اللحاق بالبويضة ، ألن يكونَ كلّ شيءٍ خورافيًّا يا ترُى لو أنه بوسعنا تسليم تلك المرتبة لشخصٍ آخرٍ جديرٍ بالحياة أكثر مما نحن عليه؟
في هذا اليوم المبارك ، لا أحدٌ يطرق بابنا و في المقابل لا نزورُ أحدًا . نضيّعُ الوقت بالوقتِ و نسد جوعنا الإجتماعي بالحلوى و بين وجبتين ، ننامُ . ننامُ لأنّ كلّ شيءٍ محثٌ على الإكتئاب حتّى يُخيل لي أنّنا ننتمي إلى دينٍ آخر : السكونُ الذي يعمّ الغرفة ، التشتت العائلي ، التلفاز المنطفئ ، الراديو المنتحب الذي يرددُ أخبار الموت ، الأضواء الخافتة ، الرائحة النتئة للتعاسةِ و بعض اللعنات التي تلفظها أمي على حين غرة ..
أكرهُ هذه المناسبة لثقلِ الزمنِ في حضرةِ الشجنِ فجميعُ الأعمال التي قمتُ بها لم تستطع تعبئة ثقب الوحدةِ الذي يبتلعني . فما الذي بوُسعي أن أفعلَ حينَ يرفضني العيدُ ، هو الذي لطالما حاولتُ الإقتراب منه فلم يزده ذلك إلا نفورا؟ لعلّي أقدمتُ على فعلٍ شنيعٍ لكي يلفظني خارج إطارَ بنوته دون أن أتمكن من إحتكارِ بركة قدسيته . أتساءل ما إن كان يختار أبناءه كما يختار تاريخه بتلك الدقةِ المدروسة ، أيَمنُ على البعض دون الآخرين أم أنه لا يفضل أحدًا على الآخرِ بقدرِ ما يسعى لإرضائهم جميعًا فيفشل في بعض الأحيانِ مثلما حدثَ معي على مدى ستِ سنواتٍ.
أكادُ أخاطبُه من بين غيمتي مرارة بقولِ المتنبي : «عيـدٌ بأيّـةِ حـالٍ جِئْـتَ يا عيـدُ؟» ، إنّه يومٌ عادي كباقي أيامِ الأسبوعِ إلاّ أن الكلّ مشغولٌ بالإحتفالِ بينما أنا على وشك الإختفاءِ. لا شيء هنا يشي بالطبلِ للحد الذي أكاد أُجزمُ أنّ ألوانَ العالمِ تلاشتْ تماما كلوحةٍ فنيّة سُكب فوقها كوبَ ماءٍ فإنمحت ملامحَ زينتها .
في مثل هذا الوقتِ ، يُقزم سقف الغرفة و تتقارب الجدران مُحيطةً بي من كل جانبٍ إضافةً إلى الجو الخانق الذي يجعل من البيتِ مكانا لا تسعه مأساتي . فأمشي مئة خطوةٍ ذهابا و إيابا ، في نفس المتر المكعبِ كحيوانٍ جريحٍ في سيرك « عمار » تُصفق الناس إحتفاءً بتخبطه . مثله تمامًا ، أكتبُ لأطبطبَ على جرحٍ بات قرحًا لربمَا يندمل تحت وطأة الكلمات .
أيّها العيدُ ، ألم يعاتبك قبلي الشاعر مصطفى جمال الدين في قصيدته : « هَلاّ تَذَكَّرتَ ليلَ الأَمـسِ تملؤُهُ *** بِشْراً إذا جِئْتَ أينَ البِشْرُ؟» ، فلِمَ تواصل حرماننا من نورك المشعِ كقطعةٍ ذهبيةٍ ، لِمَ تُتابع مخض حواسنا إلى حد الغثيان ؟
إلى أن تكرمني بشيءٍ من فرحِكَ ، سأواصل كرهك و أظل أردد : « أكره العيد ، أكره العيد..»
أكره العيد لأنّ الطفلة التي بداخلي ، تحبُه جدّا ..