ركبت الحافلة عائدة للبيت، كانت تجلس أمامي امرأة ثلاثينية تناظرني كل حين بعينيها البنيتين وتحاول تبين ملامحي تحت النقاب. لربما شبهتتي لامرأة تعرفها. وبعد برهة قالت بلهفة:
-أأنت السيدة حليمة؟
من يدري أتقصدني فعلا أم تشبهني حتى بالاسم. فأكملت:
-حليمة المرضي؟
باتت تعرفني إذن، أشرت برأسي مؤكدة ماهيتي، فأمسكت يدي وقالت متحمسة:
- تعرفين يا خالة كم كنت أود رؤيتك من جديد.
فهمت من نظراتي أني لازلت لا أعرفها، فعرفت بنفسها قائلة بعينين ممتلئتين:
- أنا أمينة، ابنة جيرانك في حي الزهور منذ ثلاثين عاما.
سرحت بذاكرتي لحي الزهور، أول حي أنتقل إليه بعد زواجي. كنت لم أتم العشرين من عمري بعد، عشت فيه خمس سنوات من أفضل أيام حياتي، نعمت بزوج عطوف وجيران محترمين، لم أشعر بالغربة يوما بينهم. حتى حضرت أم زوجي للعيش معنا، حينها تغير كل شيء.
فاستطردت أمينة:
- تذكرين يا خالة، حين تهت عن أختي في السوق، كم بكيت حينها، فتتبعت صوت صراخي فأتيت هرولة إلي حين عرفتني، هدأت من روعي، بل وتركت حاجتك وعدت أدراجك للحي لتعيديني للبيت وتطمئني أمي عني. لم أنس صنيعك أبدا يا خالة. جزاك الله كل خير.
عدت يومها للبيت راضية عن صنيعي، فسممت حماتي بدني بكلماتها بعد أن حكيت لهما ما حدث ونحن على طاولة العشاء:
- لو كنت امرأة حقا لكنت صنعت المعروف مع أبنائك، عوض تفريقه على أبناء الآخرين.
كان قد تأخر حملي جدا، رغم تأكيد الأطباء لنا أننا بخير وقادرين على الانجاب. لكنها لم تتقبل حرمان ابنها من الأبناء. فصارت منذ مجيئها لا سيرة لها غير هذا الموضوع. بل صارت بعدها تلح على زوجي تطليقي وزواجه بأخرى. ولم تمض أربعة أشهر حتى تم لها ذلك. عدت لبيت والدي بعد طلاقي ومكثت هناك أخدمهما حتى توفيا. وها أنذا أعيش في بيتهما وحدي.
فلتت دمعة من عيني لثقل الذكريات، فقالت أمينة برحمة:
- اسفة يا خالتي لم أقصد أن أجعلك تبكين، أنا حقا ممتنة لك، لو لم تكوني يومها هناك لربما ما كنت أمامك الان.
ابتسمت لها وقلت بعد أن مسحت دموعي:
- حفظك المولى يا ابنتي. لم أفعل غير واجبي حينها. أتمنى لك الصحة والسلامة.
توقفت الحافلة عند وجهتي، فاستأذنتها الانصراف بعد أن أخذت رقمي، أرسلت معها تحياتي لوالديها ونزلت ماضية نحو الوحدة من جديد.