ليس كل الناس يُقدِّر النعمة التي تفَضَّل الله بها عليه؛ بل إن هناك من تُطغيه إلى أن يرى نفسه فوق غيره من الناس، ولا يعرف قدرها، ولا يشكر مانحها، والكثير منهم يتمتع بها دون معرفة لقدرها، ويعتقد أن ما يعيشه هو أمر معتاد نشأ عليه، ويرى غيره من الناس يعيشونه، ومن ثم فلا مزية له، وليس هناك ما يدعوه للتأمل في وضعه، ومقارنته بوضع غيره ممن لم يحظوا بما حظي هو به.
وفي بداية العهد النبوي كان الكثير من الصحابة في شظف من العيش وقلة زاد، فلم تُفتح لهم الدنيا إلَّا بعد سنوات من هذا العهد المبارك، فهذا أبو هريرة يقف في طريق أبي بكر يتظاهر بأنه يسأله عن آية، ومراده الحقيقي أن يطلب منه أبو بكر أن يتبعه إلى بيته ليُطعِمه، ولما لم يفعل ومرَّ عمر بن الخطاب قال له ما قال لأبي بكر وحصل معه نفس الموقف، إلى أن مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم، وعرَف ما في وجهه من الجوع فهو -أي أبو هريرة- يقول: إن كنت لأعتمد على الأرض من الجوع، وإن كنت لأشُدُّ الحجر على بطني من الجوع. نعم، لقد بلغ أثر الجوع من أبي هريرة مبلغه، وفي حادثة أخرى يقسم النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه تمرًا فيعطي كل إنسان سبع تمرات، ومنهم أبو هريرة الذي يقول: إن إحداهن حشفة لم يكن فيهن تمرة أعجب إليه منها شدَّت في مضاغي. يا للعجب! فقد أُعجب بها؛ لأنه طال مضغه لها؛ ليباستها، ثم هو بعد ذلك وخلال سنوات قليلة، وبعد أن كثر الخير، وفُتِحت عليهم الدنيا، يلبس ثوبينِ ممشقينِ من كَتَّان، ويتمخَّط في أحدهما قائلًا: "بخ بخ! أبو هريرة يتمخط في الكَتَّان، لقد رأيتني وإني لأخِرُّ فيما بين منبر رسول الله صلى الله عليه سلم إلى حجرة عائشة مغشيًّا عليَّ، فيجيء الجائي فيضع رجله على عنقي ويرى أني مجنون وما بي من جنون، ما بي إلَّا الجوع". نعم، ما به إلَّا الجوع آنذاك وهو اليوم يلبس الكَتَّان؛ بل وأكثر من ذلك يتمخط فيه، ويقول هذه العبارة العميقة الدلالة التي توحي بالتغير من حال إلى حال لإنسان يعي معنى هذا التغير وما يستلزمه من معرفة لقدر النعمة، فالأمر لا يقتصر على أنه كان في حال صعبة، ثم انتقل منها إلى حال اليسر فقط، ولكنه يعني أن هناك عملًا يستلزمه هذا الانتقال وهو شكر المنعم، لم يكن أبو هريرة في نظري وهو يقول هذه العبارة يرمي إلى التفكُّه أمام أصحابه؛ ولكنه يرمي إلى إظهار ما أنعم الله به عليه بعبارة لطيفة تحمل المعاني السامية لما يجب أن يكون عليه الإنسان المسلم عندما يُنعِم الله عليه.
وهذا الموقف من أبي هريرة يُذكِّرنا بموقف آخر من صحابي يعتبر من أثرياء الصحابة، ومع ذلك لم يُنسِه هذا الثراء ما كان عليه بعض أصحابه الذين يعرف حالهم جيدًا، ألا وهو عبدالرحمن بن عوف الذي قُدِّم له الطعام وتذكَّر ما كان عليه حال بعض الصحابة، فقال: أُعطينا من الدنيا ما أُعطينا وقد خشينا أن تكون حسناتنا عُجِّلت لنا، ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام.
إن الإنسان ليعجب من تلك النفوس السامية التي تعي ما يجب أن يكون عليه حال المسلم عندما يكون في وضع معاشي طيب يختلف عن وضع غيره من بعض الناس، وما يستلزمه هذا الوضع من تبعات تترتب عليه.
إن عبارة أبي هريرة هذه تهدينا إلى نتيجة حتمية، وهي أن ثراء الإنسان المادي في الحياة الدنيا مهما بلغ مقداره، فليس له وزن حقيقي في ميزان الآخرة إلّا ما أنفق منه ابتغاءَ نفعه في هذه الدار، فكثير من أولئك الصفوة لم يعيشوا ولو جزءًا يسيرًا مما يعيشه الأثرياء في مختلف العصور.
alukah