الحمد لله رب العالمين، مجيب الداعين، ومغيث المستغيثين، رحمن الدنيا والآخرة، والصلاة والسلام على خير البرية وأزكى البشرية؛ نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102]؛ أما بعد عباد الله:
فالإنسان من خروجه طفلًا من بطن أمه على وجه الأرض، فهو مسافر إلى ربه والدار الآخرة، ومدة سفره هي عمره الذي كُتب له، فهو مدة سفره في هذه الدار، والأيام والليالي مراحلُ لسفره يقطعها، فكل يوم وشهر وسنة مراحلُ يطويها مرحلةً بعد أخرى، حتى ينتهي سفره بانتهاء زمن إقامته في هذه الدنيا، وعمره طال أم قصُر هو محل كسبه وسعيه، إما للخير وإما للشر؛ قال عز وجل: ﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ ﴾ [الانشقاق: 6]؛ قال الإمام الطبري رحمه الله: "يا أيها الإنسان، إنك عامل إلى ربك عملًا، فملاقيه به، خيرًا كان عملك ذلك أو شرًّا، فليكن عملك مما ينجيك من سخطه، ويُوجب لك رضاه، ولا يكُنْ مما يسخطه عليك فتهلك، فالكَيسُ الفَطِن الموفَّق هو الذي اهتم بقطع مراحل عمره بما يفوز به في الآخرة، ويُرضي به ربه جل وعلا، فلا يزال هذا دأبه حتى ينقضي زمن إقامته في هذه الدار بخير؛ ليحمد سعيه، ويبتهج بما أعده ليوم فاقته، حتى إذا أشرق صبح الآخرة، وانقشع ظلام الدنيا، فرِح بزاده وشكر ربه، وليحذر سبيل الغافلين الضالين، الذين لا يزيدهم طول بقائهم في هذه الدنيا وقطعهم لمراحلها إلا مزيدًا من الآثام والسيئات، وبُعدًا عن الملك العلَّام، حتى إذا وردوا للآخرة، وردوها مفاليسَ، والعياذ بالله تعالى".
أيها المسلمون: ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله أقسام المسافرين للدار الآخرة بكلام بديع فقال: "ثم الناس في قطع مراحل أعمارهم في الدنيا قسمان: قسم قطعوها مسافرين إلى دار الشقاء، فكلما قطعوا مرحلة منها قربوا من تلك الدار، وبعدوا عن ربهم ودار كرامته، فقطعوا تلك المراحل بمساخط الرب ومعاداته، ومعاداة رسله وأوليائه ودينه، فهؤلاء جُعلت أيامهم مراحلَ يسافرون فيها إلى الدار التي خُلقوا لها، فهم مصحوبون فيها بالشياطين الموكلة بهم، حتى يسوقونهم إلى منازلهم سوقًا؛ كما قال تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا ﴾ [مريم: 83]، تزعجهم للمعاصي والكفر، وتسوقهم إليها سوقًا.
والقسم الثاني: قطعوا تلك المراحل سائرين فيها إلى الله ودار السلام، وهم ثلاثة أقسام: ظالم لنفسه، ومقتصد، وسابق بالخيرات، فجميعهم في سيرهم موقنون بالرُّجعى إلى الله، ولكنهم متفاوتون في التزود وتعبئة الزاد واختياره، وسرعة السير وبطئه.
فالظالم لنفسه: مقصِّر في الزاد غيرُ آخذٍ منه ما يبلغه المنزل، لا في قدره ولا في صفته، بل مفرط في الذي ينبغي له أن يتزوده، ومع ذلك فهو متزود بما يتأذى به في طريقه، ويجد أذاه إذا وصل المنزل يوم البعث، قد غرق في غفلاته، وآثَرَ شهواته ولذاته على مراضي الرب وأوامره، مع إيمانه بالله وكتبه، ورسله واليوم الآخر، فإذا استقبل يومه وليلته، استقبلهما وقد سبقت حظوظه وشهواته إلى قلبه، فحركت جوارحه طالبةً لها ساعيةً فيها، فإذا زاحمتها حقوق ربه فتارةً وتارةً، فمرةً يأخذ بالرخصة ومرةً بالعزيمة، ومرةً يقدم على الذنب وترك الحق تهاونًا ووعدًا بالتوبة، فمراحل عمره مقطوعة بالربح والخسران وهو للأغلب منهما، فإذا ورد القيامة، مِيزَ ربحه من خسرانه، فكان الحكم للراجح منهما، وحكم الله عز وجل من وراء ذلك لا يعدم عباده منه فضلًا وعدلًا.
وأما المقتصد: فهو الذي اقتصر من الزاد على ما يبلغه، ولم يشد مع ذلك أحمال التجارة الرابحة، ولم يتزود بما يضره، فهو سالم غانم، لكن فاتته المتاجر الرابحة، وأنواع المكاسب الفاخرة، فقد أدَّوا ما يجب، ولم يزيدوا عليه ولم ينقصوا، فلا حصلوا على أرباح التجار، ولا بخسوا الحق الذي عليهم، فإذا استقبل أحدهم يومه، استقبله بالطهارة والصلاة في وقتها بأركانها وواجباتها وشروطها، ثم ينصرف منها إلى مباحاته ومعاشه، مشتغلًا بها قائمًا بأعبائها، مؤديًا واجبَ الرب فيها، غير متفرغ لنوافل العبادات وأوراد الأذكار، فإذا حضرت الفريضة الأخرى بادر إليها، فإذا أكملها انصرف إلى حاله الأول، فهو كذلك سائر يومه، فإذا جاء الليل فكذلك إلى حين النوم يأخذ مضجعه حتى ينشق الفجر ليصلي الفريضة، فإذا جاء الصوم الواجب قام بحقه، وكذلك الزكاة الواجبة، والحج الواجب، وكذلك المعاملة مع الخلق يقوم فيها بالقسط، لا يظلمهم ولا يترك حقه لهم.
وأما السابق بالخيرات، فهمُّه في تحصيل الأرباح، وشد أحمال التجارات لعلمه بمقدار الربح الحاصل، فيرى خسرانًا أن يدخر شيئًا مما بيده ولا يتَّجر فيه، فيجد ربحه يوم يغتبط التجار بأرباح تجارتهم، فهو كرجل علِم أن أمامه بلدةً يكسب الدرهم فيها عشرة إلى سبعمائة وأكثر، وله خبرة بطريق ذلك البلد، وخبرة بالتجارة، فلو أمكنه بيع ثيابه وكل ما يملك؛ حتى يهيئ به تجارةً إلى ذلك البلد لَفَعَلَ، فهذا حال السابق بالخيرات، يرى خسرانًا بيِّنًا أن يمر عليه وقت في غير متجر... هِمَمُهم مصروفة إلى القيام بالأعمال الصالحة، واجتناب الأعمال القبيحة، مُقبلين على صلاتهم وعباداتهم وسُننها أتم الإقبال وأحسن الأداء، قائمين بحقوق العباد... فهم متنقلون في منازل العبودية، إذ وقع منهم تفريط في حق من حقوق الله، بادروا إلى التوبة والاستغفار، ومحوه ومداوته بعمل صالح"؛ [انتهى كلامه].
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه وتوبوا إليه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين؛ نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد:
أيها الفضلاء: تضمَّن كتاب الله تعالى آياتٍ في بيان حال المسافرين إلى الدار الآخرة ومصيرهم؛ ومن ذلك قوله عز وجل: ﴿ فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ ﴾ [الواقعة: 88 - 94]، فما نحن في هذه الدنيا إلا مسافرون، فنسأله تعالى أن يرزقنا حسن الزاد للمعاد، ولْيَخْتَرِ العبد لنفسه حسن المنزل قبل الوصول لدار الإقامة الأبدية، فإن الاختيار متاح ما دام في العمر بقية؛ عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: ((نام رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير، فقام وقد أثر في جنبه، فقلنا: يا رسول الله لو اتخذنا لك وطاءً، فقال: ما لي وما للدنيا؟ ما أنا في الدنيا إلا كراكبٍ استظلَّ تحت شجرة، ثم راح وتركها))؛ [رواه الترمذي]، وعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: ((أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بِمَنْكِبي، فقال: كُنْ في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل))؛ [رواه البخاري]، فالموفَّق والعاقل الحصيف من التمس الطريق المستقيم السالم من الآفات، الموصل لهدفه بسلام، ولم يركن للطريق وملهياته التي تقطع عن أخذ الزاد النافع لسفره، وسارع ونافس في تحصيل الأجور لرفعة الدرجات يوم البعث والنشور، فإن الغبن الحقيقيَّ الذي لا عوض فيه إنما هو في ذلك اليوم؛ الذي قال عنه ربنا سبحانه: ﴿ يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ ﴾ [التغابن: 9]؛ قال الشيخ السعدي رحمه الله: "اذكروا يوم الجمع الذي يجمع الله به الأولين والآخرين، ويقفهم موقفًا هائلًا عظيمًا، وينبئهم بما عملوا، فحينئذٍ يظهر الفرق والتفاوت بين الخلائق، ويُرفع أقوام إلى أعلى عليين، في الغرف العاليات، والمنازل المرتفعات، المشتملة على جميع اللذات والشهوات، ويُخفض أقوام إلى أسفل سافلين، محل الهم والغم، والحزن، والعذاب الشديد، وذلك نتيجة ما قدموه لأنفسهم، وأسلفوه أيام حياتهم، فيظهر فيه التغابن والتفاوت بين الخلائق، ويغبن المؤمنون الفاسقين، ويعرف المجرمون أنهم على غير شيء، وأنهم هم الخاسرون".
اللهم ارزقنا حسن الاستعداد ليوم المعاد، ووفِّقنا لحسن الزاد لسفرنا، واجعلنا من عبادك السابقين بالخيرات بفضلك ورحمتك يا رحمن.
عباد الله: صلوا وسلموا على من أمرنا المولى بالصلاة والسلام عليه؛ فقال عز من قائلٍ عليمًا: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56]، اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد، صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين والأئمة المهديين؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحب والآل ومن تبعهم بإحسان إلى يوم التنادِ، وعنا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
عباد الله، ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 90]، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدْكم، واستغفروه يغفر لكم، ﴿ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾ [العنكبوت: 45]
alukah